قائد الطوفان قائد الطوفان

مقال: "لماذا حماس؟"

النائب إبراهيم دحبور
النائب إبراهيم دحبور

بقلم النائب: ابراهيم دحبور

"ثمة مواقف تمر على الإنسان تترك أثراً عميقاً في نفسه فيتذكرها عند أول حدث مشابه"، فقد قرأت كتاباً متخصصاً قبل سنوات طويلة بعنوان "لماذا مكة؟" تناول فيه المؤلف بأسلوب علمي وموضوعي ما رآه وجيهاً من الأسباب لاختيار مكة مكاناً للبعثة النبوية، كونها كانت مدينة جاذبة وجامعة وحامية ومتنوعة وملهمة وقوية وقائدة ومؤثرة ومقدسة، فما وجدت يومها إلاّ الصواب فيما رأى وما وجدته إلاّ أجاد وأبدع في تناوله للموضوع، ولإعجابي بعنوان وموضوعية وأسلوب المؤلف، فإني سأتناول حركة حماس وأسباب الضغط عليها تحت عنوان "لماذا حماس؟" وسأبذل الوسع في الاختصار اعتماداً على وعي القاريء، مع حرصي على الحيادية والموضوعية ما أمكنني ذلك.

فحماس التي باتت إحدى الحركات الأساسية والمؤثرة في مسيرة العمل الوطني الفلسطيني، تستوجب منا دراسة أسباب وسيرورة افتعال الأزمات في وجهها وتعرضها لهذا الكمّ الهائل من الضغوط، والتي يقف –برأيي- على رأسها: أن حماس كانت سبب عودة الجسم الرئيسي للتيار الإسلامي في فلسطين إلى واجهة العمل السياسي، وشكلت أداة انخراطه في مقاومة الاحتلال بكل إمكاناتـه ومفاعيله، وأضافت حلقة جديدة من حلقات الجهـاد والمقاومة ببعدها الإسلامي إلى حلقات الكفاح الثوري الفلسطيني الطويل، وساهمت في عودة البعد الإسلامي للقضية الوطنية، وأعادت تعريف الصراع بمفاهيم جديدة لم تكن موجودة، كونها تمثل العمود الفقري للتيار الإسلامي في فلسطين ولها امتداد فكري عالمي مساند -كما ورد في وثيقتها التأسيسية الأولى-، لذا فقد كانت عودتها مؤثرة وفاعلة.

فحماس وبالرغم من كونها حركة تحرر وطني تتسم بالبراغماتية والقدرة على التكيف مع الواقع، فهي أيضاً حركة إسلامية تقيم شؤون الحياة في جميع الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفقاً لثوابت ومنطلقات أيديولوجية، وتظل منجذبـة إلى مبادئ رسمت معالم فكرها، وجمعت بموجبها بين النزعتين الوطنيـة والأيديولوجية، وأعطتها القدرة على المواءمة بين الخطابين السياسي والأيديولوجي، ولهذا سيبقى التشويه والعداء لحماس قائماً كي لا يدخل هذا المتغير على معادلة الصراع فتتغير كل مفاعليه ونتائجه وامتداداته لصالح الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.

أما السبب الثاني: فلأنها تمكنت من بناء مؤسسة عسكرية متكاملة وشكلت جيشاً من آلاف المقـاتلين جاهزين ومجهزين لصد أي عدوان، وأنشأت صناعة عسـكرية متصـاعدة بـرغم الحصـار والاستنزاف المتواصل، ورسخت ثقافة المقاومة ونجحت إلى حدٍّ كبير في الجمع بينها وبين إدارة المؤسسات المدنية، الأمر الذي لا يمكن للإحتلال أن يسمح به ولا يمكنه التعايش معه، ولهذا فقد صُنف القطاع الذي تسيطر عليه بأنه كيان معادي، واستمرت محاولات استئصالها عبر عمليات عسكرية مكثفة ومستمرة لقتل تجربتها فـي مهدها، إلاّ أنها واصلت مسيرتها وسط هذه المخاطر في ظروف صعبة وقاهرة، ولم يتحقق هدف القضاء عليها رغـم محـاولات الخنق والتضييق التي مورست ضدها -وهي المحاولات التي لـو مرت بها حركة أخرى لكان مصيرها الزوال والاندثار- ولهذا فسيستمر الاحتلال بممارسة مزيد من الضغط عليها وخنقها وتحميلها عبء مناوئته ومقاومته أملاً منه بتحجيمها وعزلها والحد من تقدمها.

"ولماذا حماس؟" لأنها ثالثاً: تمكنت من نقل الصراع لعمق الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، من خلال عملياتها الاستشهادية وإطلاق الصـواريخ على المدن والتجمعات والقواعد العسكرية في الداخل المحتل، وهو ما شـكل ضـغطاً كبيراً على الاحتلال وكسر نظريته الأمنية القائمة على تجنيب الجبهة الداخلية تبعات العلاقة الصدامية مع فصائل المقاومة، لذا فلن يُسمح لحماس أن تعيش حالة استقرار تمنحها مزيداً من القدرة على إرباك الجبهة الداخلية للاحتلال، وستستمر محاولات إشغالها عن هذه المهمة أكثر وأكثر.

أما رابعاً: فلأنها ثبتت على ذات المبادئ التي انطلقت على أساسها، فلم تُغيّر ولم تُبدّل وواصلت تمسكها بما أعلنته منذ انطلاقتها، وأصرت على موقفها الرافض للاعتراف بشرعية الاحتلال والإقرار له بأحقيته في أرض فلسطين، وصمدت أمام الاعتداءات والحصار والعزلة التـي عانـت منهـا طيلـة السنوات الماضية، بل ونجحت بتخطي حاجز العزلة الذي فُرض عليها، وعارضت عملية السلام بشكلها الذي يُراد فرضه، فهي مع السـلام الذي يعيد الحقوق للشعب الفلسطيني ويُمكّنه من ممارسة حقه فـي الحريـة والعـودة والاستقلال وتقرير المصير، ورأت أن الاتفاقات التي جرى التوصل اليها حتى الآن لا تلبي حقوق الشعب الفلسطيني ولا تستجيب لتطلعاته وليست عادلة وتلحـق الظلـم بشعبنا وتكافئ الجانب المعتدي على اعتدائه وتعترف له بما اسـتلبه مـن الآخرين، وهي سبب فرض المعتدي لشروطه بينما طولب المظلوم بموجبها بالتنازل عـن حقوقه، ولهذا فلن يَغفر الأعداء لحماس هذا الموقف الرافض للسلام بالشكل الذي يريدونه طال الزمن أو قصر.

أما خامس أسباب استمرار الضغط فكان النتيجة العكسية لعملية الإبعاد: ففي الوقت الذي أرادت فيه دولة الاحتلال توجيه ضربة قاصمة لحماس من خلال إبعاد قياداتها وعناصرها إلى مرج الزهور، تفاجأت أن النتيجة كانت مغايرة تماماً، إذ نقل الإبعاد الحركة من البعد الداخلي إلى البعد الخـارجي، وأدى إلى بروز قيادات جديدة في الداخل بديلة عن تلك التي أُبعدت، وقاد إلى لقاء مباشر بين قيادات الداخل والخارج وقيادات الضفة وغزة، وساهم في بروز قيادة علنية في مرج الزهور عادت إلى الداخل بكل الزخم الذي كونته هناك، وحازت الشرعية النضالية، وازداد النشاط التمثيلي للحركة في الخارج وفتحت مكاتب تمثيل لها في العديد من الدول، ومكن الإبعاد الحركة من اجتراح مفاهيم جديدة أضافتها للنضال الفلسطيني لم تكن موجودة سابقاً، وقدم ناطقوها خطاباً سياسياً نبع من واقع معاناتهم، وكشـف حقيقـة الاحتلال ووضح ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من ظلم وعدوان على يد الاحتلال، ومكن الحركة الوليدة من مخاطبة العالم وتعريفه بمبادئها والأسس التي قامت عليها والأهداف التي وجدت من أجلها، مما ساعدها في زيادة حالة الوعي العربي والعالمي حول القضية الفلسطينية وعرفها بالحركة أكثر وأكثر، والأهم أن المبعدين تمكنوا من إغلاق ملف الإبعاد وإلى الأبد بسبب ثباتهم وتكتلهم حول هدفهم، فلم يستسلموا لقدر أريد لهم أن يقبلوا به مرغمين، فجاء قرار مجلس الأمن الشهير رقم "799" والذي عاد المبعدون على أساسه وأغلق ملف الإبعاد بعده إلى الأبد، وعليه فإن محطة الإبعاد ارتدت إلى نحر العدو، وبدل أن تكون قاصمة لحماس فإنها كانت رافعة مهمة لها وللقضية الوطنية معها، ولهذا زاد حنق الاحتلال عليها وما زال رغم مرور ربع قرن عليه.

"ولماذا حماس؟" لأنها سادسا: تصر على إعادة ترتيب منظمة التحرير بحيث تعود خيمة ظليلة وجسماً جامعاً لكل الفلسطينيين، وأن يُشكَّل مجلسها الوطني بالانتخاب وليس بالتعيين، وأن تُدار بمنطق الشراكة الكاملة، وأن يُعاد الاعتبار لها مرة أخرى لتقود المشروع الوطني على أسس جديدة تتوافق وروح القضية الوطنية وتنسجم مع تطلعات أبناء الشعب الفلسطيني في سعيه للتحرر والاستقلال، وأن تبقى مرجعية كل الخطوات السياسية ومرجعية الممثليات والسفارات الفلسطينية في الخارج، وأن لا يتعطّل تجديدها أكثر وأكثر، وأن يُصوب مسارها الذي تُقر جميع القوى بما فيها حركة فتح أنه شابه بعض الخلل، وبالتالي إذا ما حصل ذلك وأُعيد الاعتبار للمنظمة فإنه سيهدم كل الخطوات التي خطاها أعداء الشعب الفلسطيني من أجل الوصول بالمنظمة إلى ما وصلت اليه من ترهل وفقدان للدور، إذ بدلاً من أن تُدير المنظمة السلطة التي أنشأتها أصبحت هي ذاتها تحت سيطرتها، ولهذا ليس من السهل أن تُمكّن حماس من دخول المنظمة وهي التي تملك الثقل الجماهيري والعلاقات الدولية والامتداد العربي والاسلامي، وستعمل "إسرائيل" بكل ما أوتيت من قوة لتأجيل خطوة المنظمة سنوات وسنوات وسيُحال دون تحقيق حماس لهدفها ما أمكن ذلك.

وسابعاً "لماذا حماس؟" تحت الاتهام دائما: لأن الأطراف المناوئة لها تريد أن تظهرها على أنها سبب استمرار الإنقسام، بهدف إخفاء أسبابه الحقيقية، وأن جذوره تعود إلى عدم منح الحكومة التي شكلتها الفرصة الكاملة لإدارة مؤسسات السلطة بأريحية وحرية وفقاً للقانون والعرف الديمقراطي الذي منحها هذا الحق، وطمس حقيقة أن جميع الفصائل لم تشترك معها في تشكيل الحكومة بل وحُذّر علناً وعبر وسائل الإعلام كل من فكر أو أشار بذلك، وشُكلت لتعويق عملها فرقٌ وعصابات تعمل خارج إطار القانون، عملت على إشاعة الفوضى والقتل والبطش والتخريب ونَصَبت الحواجز في الشوارع العامة ومارست أسوأ الممارسات عليها، وكل ذلك بهدف إيجاد الفرصة المواتية للهجوم على حماس وصب جامَّ الغضب والنقمة عليها، وتحميلها المآسي والنكبات وانقطاع الرواتب والكهرباء وإغلاق المعابر والبطالة والفلتان ونتائج الحروب، وضخ الإشاعات لقطع الطريق على أية فرصة لإعمال العقل والتفكير بأن منطق الأشياء لا يقبل أن تنقلب حماس على حكومة هي التي شكلتها وكانت تديرها وتدير أجهزتها المدنية والأمنية، أو تنقلب على مجلس نيابي تُشكّل هي أغلبيته، ولهذا ولإبقاء هذا الوهم مسيطراً على الأذهان ليس من السهل أن يُسمح للمصالحة أن تتحقق، كي لا يُعاد الاعتبار لدور حماس الوطني أو السماح لها باعتلاء منصة الدفاع التي تمكنها من تبرئة ساحتها من كل التهم التي سيقت ضدها في موضوع الانقسام.

وثامناً "لماذا حماس؟": لأنها كانت أول تجربة ديمقراطية ناجحة لحركات الإسلام السياسي وحققت بموجبها أغلبية نيابية وشكلت حكومة وطنية، لذا لم يكن من السهل السماح بنجاح تجربة حكمها أو السماح لها بامتلاك إرادتها السياسية الحرة أو تغيير الاتفاقيات التي فُرضت على الشعب الفلسطيني في مرحة ضعفه، ولكي لا تشكل نموذجاً وقدوة لغيرها من الحركات الإسلامية في محيط دولة الاحتلال، لهذا فقد حوصرت وقطعت عنها المساعدات ووضعت عليها الاشتراطات وحيل بينها وبين ما تبغيه بكثير من المعوقات.

وفي النهاية فإننا -وبعد مناقشة بعض أسباب الضغط على حماس والسكوت عن أسباب كثير غيرها- لا نريد لها ولا لغيرها من الحركات أن تكون في دائرة الهجوم والاتهام، ولا نريد لأحد أن يكون بوقاً للأعداء ضد الآخر، بل نريد أن يوقن الجميع بأن الحل يكمن في تكامل أدوار كل الحركات وليس في التصادم بينها، وأن يُعاد صياغة الأدوار بما يتناسب مع المنهج الثوري الموروث، وصولاً للتخلص من الفردانية المذمومة ونهاية مسلسل الاتهام والاتهام المضاد، فمصلحة القضية تقتضي بأن تجتمع الحركات الوطنية على برنامج متوافق عليه، وأن تعالج الأزمات مجتمعة، وأن تنظم العلاقة بينها المباديء والأخلاق الوطنية خدمة للشعب والقضية فقط، وأن نكون جميعاً في ميزان الأعداء سواء، وصولاً لسحب الذرائع ممن يقول "لماذا حماس؟".

البث المباشر