ليس فعل المقاومة مقدساً ومتعالياً على النقد، ونقد الفعل المقاوم ليس مشروعاً فقط، بل ضرورة لسد الثغرات وتعزيز نقاط القوة. الحساسية العالية من نقد المقاومة عند قطاع واسع من أنصارها تتصل بأمرين: المنطلقات التي يرتكز إليها النقد (تحديداً معاداة المقاومة)، وتوقيت النقد ولغته. في حالة الحرب، لا يبدو الوضع مناسباً لعملية نقد تفصيلية، وخاصة في ما يتعلّق بأخطاء ارتُكبت أثناء الحرب، لكن يبقى مهماً التحذير من أخطاء قد تؤثر في مصير المعركة، والدعوة إلى تجنّبها، ومحاولة إيجاد معالجات للتحديات القائمة أثناء المعركة.
نشهد مع مرور عام على «طوفان الأقصى» تصاعداً للّغة الناقدة لعملية السابع من أكتوبر، وتساؤلاً حول جدواها، يرتبط بحجم الكلفة المترتبة عليها مما نراه من إبادة صهيونية. يركّز هذا النقد على الكلفة البشرية، ويتّهم أنصار العملية بتجاهلها، وعدم الاكتراث بأرواح الناس، ويتدثّر بالواقعية التي تظهر في هذا الطرح توأماً سيامياً للحكمة، في مواجهة جنون المغامرات غير المدروسة، ونتائجها الكارثية. إذا كانت الواقعية مصطلحاً مزخرفاً للاستسلام لموازين القوى، فإنّ المقاومة وكل أفعالها في موقعٍ نقيض، إذ هي محاولة لإحداث تغيير تاريخي في موازين القوى، لأن الفضيلة والحكمة ليستا في الاستسلام لما هو قائم، بل في محاولة تغييره للأفضل. لا يعني هذا الاندفاع من دون حساب، لكنه يعني أن التسليم بموازين القوى القائمة لا يدخل في رؤية حركة تغيير ثورية وحساباتها.
من المفيد هنا قراءة المنطلقات المختلفة لنقد عملية «طوفان الأقصى»، لفهم مسارات هذا النقد المختلفة. في مقدمة الناقدين المتمسكين بالواقعية في خطابهم منذ سنة، نجد ليبراليي النظام الرسمي العربي، وهؤلاء اعتادوا في كل معركة لحركات المقاومة أن يقدموا نقداً وخطاباً إعلامياً يتمحور حول رفض المغامرات والتمسك بخيار الواقعية المتمثل بالسلام وحل الدولتين. إن أبسط محاكمة بمقاييس الواقعية لهذا الطرح المتهافت المليء بشعارات السلام والاستقرار والرخاء الاقتصادي في المنطقة كبديل لثقافة الخراب والموت التي تجلبها المقاومة، يفضي إلى انعدام الواقعية فيه، فبعد أكثر من ثلاثين عاماً من اتفاقية أوسلو، دفن الاستيطان والوحشية الصهيونيتين فرصة حل الدولتين، ولم تبقَ سوى الشعارات الفارغة ليرددها الليبراليون العرب.
اللافت أن بعضهم غادر مربع لوم الضحية على إثارة الجلبة، وتقدم خطوة إلى الأمام بتمجيد الجاني الصهيوني وقوته، والإصرار على حتمية انتصاره، مقسمين بـ«التكنولوجيا الغربية» ألّا مفر من هزيمة عربية جديدة. الواقعية عند هؤلاء هي عبادة القوة الغربية، وكل تحدٍّ لها جهلٌ وانعدام حكمة، وهم يراهنون على فوز المعسكر الغربي وفوزهم معه، لكن التاريخ والواقع يقولان أن التفوق التقني لا يضمن الانتصار، وأن هذا النوع من الرهانات سقط سابقاً.
يختط ليبراليو «الربيع العربي» (وهذه تسمية تشمل الإسلاميين واليساريين المتلبرلين، ولا تتعلق بكل أنصار الثورات العربية) مساراً نقدياً مشابهاً، يركز على الواقعية أيضاً، ويتساءل حول جدوى «طوفان الأقصى» في ظل الكلفة العالية المادية والبشرية. لنتذكر أن هؤلاء ثوريون حين يتعلق الأمر بالاستبداد السياسي العربي، وبالذات الذي يتخذ الغرب منه موقفاً سلبياً. في حالة مثل سوريا، تجد الدعوات إلى امتشاق السلاح، والتزكيات الليبرالية الديموقراطية للفصائل الجهادية الطائفية، مع استغاثات متوالية بـ«الناتو»، وفي كل هذا لا تهم الكلفة البشرية، ولا ينظر إلى دعوات رفض الحروب الأهلية إلا انحيازاً إلى الاستبداد، ولا مكان للمراجعات ولا النقد ولا محاولات تقليل الخسائر. أمّا في حالة المواجهة مع استعمار إحلالي إبادي، تنزل الحكمة والبراغماتية على ليبراليي «الربيع العربي»، وتبدأ أسئلة الجدوى والكلفة وضرورة النقد. الواقعية لهذا النوع من الليبراليين، تتمثّل في الاختيار الصائب للمعارك، فمعركةٌ تكون أميركا فيها في صفّك هي جديرةٌ بخوضها للنهاية، أمّا معركة تكون فيها أميركا في مواجهتك هي خسارةٌ يحسن تجنّبها. الثورية هنا محكومة بالسقف الأميركي، وأولويتها الاستبداد لا الاستعمار.
لكن نقداً لـ«طوفان الأقصى» يصدر أيضاً من أشخاص وجمهور لا ينطلق من منطلقات الواقعية المحكومة بالمعايير الغربية، وهو يصدر غالباً من ضغط المشهد الإنساني، وحجم الخسائر على مستوى قيادات المقاومة، واحتمالات التهجير مع استمرار الإبادة. في نقاش الجدوى والكلفة تجاه فعلٍ مقاوِم له أثر ضخم، لا بد من استحضار التاريخ، والمسألة هنا لا تتعلق بحتميات تاريخية، بل بمسار لا بد من السير فيه بحثاً عن النتيجة. كل فعل مقاوم هو إسهام في عملية تاريخية تراكمية تسعى إلى تغيير الواقع وتحرير الأرض والناس، وكل تحرّر من الاستعمار حصل بفعل تراكم مجموعة من الأفعال على مدى زمني طويل، بعضها لم ينجح في وقته، لكنه أسّس لما بعده، وما كان التحرير ليكون لولا تراكم هذه الأفعال. الجدوى في التراكم، وكل فعل ضخم مثل «طوفان الأقصى» يعزّز العملية التاريخية ويسرّعها.
لكن الكلفة عالية، وهذا يطرح علامات استفهام حول الجدوى، ومن دون التقليل من التضحيات المقدّمة، ومع الاهتمام بحماية كل أرواح البشر، إلا أنه ليس من عدم الاكتراث القول إن التضحية جزء من المعركة، وليست القضية هنا ألّا تعمل المقاومة على حماية الناس بكل السبل، لكن لا يمكن أن يتحمّل المقاوم مسؤولية أفعال المحتل وجرائمه، وخاصة إذا كان الاحتلال يخوض حرب وجود، الاستسلام فيها هو سوق الناس للإبادة والتهجير.
من يناقش الكلفة يتغافل عن كلفة الاستسلام، وعن كلفة عدم القيام بفعل مقاوم في ظل تصفية القضية الفلسطينية، والتهجير البطيء لأهل الضفة الغربية، وتهويد الأقصى، وحصار غزة المستمر منذ 18 عاماً. هل هذه كلفة مقبولة؟ وهل المقبول انتظار التهجير والتطهير العرقي المستمر بوتيرة منخفضة، أم مقاومته والعمل على منعه؟ كلفة عدم المقاومة هو سيناريو التهجير وتصفية القضية، فيما المقاومة فرصة لمنع التهجير رغم كل ما نراه من إبادة، وهكذا حتمت «الواقعية» غير الانهزامية ولادة «الطوفان».