مرتان في العمر طلبت أمام الملأ أن يزغردوا لها، مرة وهي خريجة من الجامعة الإسلامية بغزة، والثانية وهي زوجة الشهيد مازن فقها، ولكن متى ستزغرد ناهد؟، لم يكن هذا السؤال الوحيد الذي جال في خاطر "الرسالة" خلال إعدادها محاور حديثها مع النابلسية ناهد عصيدة التي أدهشت من رآها وهي تردد عبر منصات الاعلام "أنا قوية .. أنا ترباية مازن".
إنسانيتنا كانت حاضرة بالدرجة الأولى، ولم تغلب "الرسالة" السبق الصحفي على مشاعر الزوجة التي انهالت عليها وسائل الإعلام رغبة بالحديث عن تفاصيل اغتيال زوجها، حيث كانت كمن ينتظر هذا النوع من الأسئلة لتبوح بما لديها من تفاصيل تكشفها فخرًا بزوجها وحبًا له لأول مرة!.
حلم في الزنزانة!
بدون مقدمات، مازحتها "الرسالة" مستذكرة لقاءها مع المحرر مازن ضمن صفقة وفاء الأحرار "قبل ست سنوات" حينها قال مازن: "زوجتي ستكون من الضفة".. لماذا ناهد؟، وكيف كانت البداية؟، شبكت يديها ببعضهما حتى امتلأت الفراغات بين الأصابع، وقالت:" مازن شافني بالمنام لما كان بالأسر"، وتكمل على لسان مازن حين أخبرها بتفاصيل ذلك "شعرت بالصدمة حينما وجدتك على أرض الواقع في لقاء تلفزيوني مع خالك المحرر عمر عصيدة".
انتظر مازن حتى انتهى اللقاء بين المحرر المبعد إلى غزة مع أهله في نابلس، وكان مباشرًا في حديثه مع عمر:" لقد رأيتها في المنام وأريدها زوجة لي".
تفردت "الرسالة" بحديث عصيدة، وهي تقول عن طريقة خطبته لها لأول مرة عبر الاعلام:" كان يتمنى أن يتزوج بنتا من ريف نابلس"، مضيفة:" مازن كان يعرف شبابا من عائلتي منهم الآن الأسرى والشهداء، كنت أعرفه وأنا طفلة صغيرة".
في الأسر رآني مازن في المنام وتمنى الارتباط بنابلسية
لم تكن الموافقة سهلة بالنسبة لعائلة ناهد حيث الإبعاد لغزة، أما ناهد فلقد راودها السؤال "لماذا لا يتزوج من غزة أو حتى من بلدته طوباس؟"، وتتابع بابتسامة: "ولكن بعد أن تزوجته عرفت السبب".
الابتسامة ذاتها التي تحدثت عنها كثيراً ناهد خلال لقاءاتها الأولى مع الاعلام والتي ارتسمت على محيا زوجها مازن دون معرفة لسببها، أمست مدركة اليوم أنها ابتسامة مازن الشهيد.
بعيدًا عن الابتسامة سألناها "متى بكى مازن أو شعر بغصة؟"، تنهيدة أسمعتنا إياها ناهد كتلك التي يزفرها مازن حين يسمع عن محاولة لعملية طعن أو دعس في الضفة، مبينة أن كلمة "محاولة" كانت تؤلمه حينما لا تنجح العملية الفدائية بتحقيق أهدافها. وعما يجري في الضفة إبان انتفاضة القدس ولاسيما بلدته طوباس، بينت أنه كان يتابع أحداث انتفاضة القدس، ويفرح عند وقوع عملية فدائية ضد الاحتلال.
خان يونس أحب مناطق القطاع لقلب مازن
أما عن دمعات مازن، فقد كانت فرحًا بإعلان كتائب عز الدين القسام خلال الحرب الأخيرة أسر الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، حيث سجد وبكى وكبر وردد أمام مسامع زوجته:" أنا اليوم سعيد ومهما استمرت الحرب لا يهم، فهذا الذي سيحرر إخواني في السجون، وسنسمع بصفقة وفاء الأحرار (2).
احتاط قلبي للشهادة!
"ثائر، مطارد، معتقل، مبعد.. هل كان قلبك محتاطًا ليمسي يومًا شهيدًا؟"، هزت برأسها بالإيجاب على سؤالنا، وأعادتنا لأول اتصال لها بمازن، وقالت:" أول ذكرى انطلاقة لحماس بعد وفاء الأحرار كان مازن عريفًا للاحتفال (...) هاتفني في أول اتصال قائلًا:" ممكن تعيشي معي يوم أو سنة أو للأبد، طلعت من السجن إلا أنني سأستمر في عملي لأجل الأسرى والمسرى ولك القرار".
سريعاً قبلت الارتباط بمازن وكانت على يقين بأنه سيأتي اليوم الذي تمسي فيه زوجة الشهيد مازن، تملكها الخوف كثيرًا خلال السنوات الست لزواجها من مازن وبكت أكثر ولسانها يلهج " اللهم إني أستودعك مازن فابعد عنه الشر ورده إلينا سالمًا".
لم يحتط قلب ناهد وحدها من الفقد، فالشهيد مازن كان متيقظًا ودرجة احتياطاته الأمنية كانت عالية بحسب زوجته، وتقول:" لا يحب الثرثرة وكان يوصني بأن أعتبر نفسي لا أسمع ولا أرى(...) استخدامه للجوال كان بحرص شديد وحتى استخدامي أنا كذلك".
تحليق وسما!
يحلق مازن وصغيراه سما ومحمد في السماء وهو ما وثقته آخر صوره أو بعضها مع صغاره، كتلك التي ألقى فيها محمد ابنه عاليًا وتوقفت اللقطة وذراعاه مفتوحتان لاحتضانه مجددًا.
بكى مازن لأول مرة عند اختطاف الجندي شاؤول أملًا بوفاء أحرار2
"أين ذهب بابا" بماذا أجابت عليهما ناهد حين ردداها على مسمعها؟، وكيف تعاملت مع صغيرين ليس لهما سند سوى بابا مازن في غزة؟، كانت تراودنا تلك الأسئلة خلال طريقنا لمقابلة ناهد في بيت خالها عمر، إلا أننا ولحظة اللقاء بها علمنا الإجابة قبل السؤال حينما اعتذرت ناهد أن تظهر سما أو تجلس معنا خلال الحديث الصحفي!.
تقول ناهد:" أود أن أترك لمحمد وسما الصورة الجميلة عن والدهم وهو يبتسم، حتى أنني لم أجعلهما يودعان جثمانه".
ناهد الأم تدرك جيدًا الأثر الذي سيتركه وجود صغارها بين عدسات الكاميرات والحديث عن الفقد على نفسيتهما، حيث رفضت أن تظهر سما خلال اللقاء المباشر الذي وثقته صفحة الرسالة للإعلام عبر الفيس بوك، واعتذرت على الهواء معللة ما سبق.
منذ حادثة اغتيال المحرر فقها مساء الجمعة الماضية وطفليه يرددان:" بابا بالجنة واحنا لما نكبر راح نروح لعنده"، كانا كمن أدرك أن الجنة يدخلها الكبار بأفعالهم تمامًا كوالدهما مازن أحد أبرز المطلوبين لدى الاحتلال.
زغرودة الثأر
نعود إلى صدى الزغرودة الأولى في قاعة المؤتمرات بالجامعة الإسلامية والتي طلبتها ناهد الخريجة من الأمهات الحاضرات أن يسمعوها لها لغياب أهلها، والتي سرعان ما امتزجت الزغرودة الأولى بالثانية والتي رجتها ودمعاتها تخنق صوتها "زغردوا للشهيد مازن"، ويبقى سؤال "الرسالة" متى ستزغرد ناهد إذًن؟"، أجابت بالتزامن مع قبضة بيدها اليمنى:" راح أزغرد يوم الثأر لدم مازن، يوم أن يعاقب منفذ عملية اغتيال زوجي أمام الناس"، وتابعت:" أكثر صفة كان يكرهها مازن هي الغدر".
ابنة السادسة والعشرين ربيعًا أكدت بأنها ستطلب من الجميع في ذلك اليوم بأن يزغردوا لأنها بمثابة الفرحة الحقيقية.
تلك القوة في الحديث تؤكد بأنها مستمدة من مازن الذي كرس حياته وعمله من أجل تحرير الضفة، مشيرة أنه اغتيل لحرصه على دعم المقاومة هناك، وبنبرة تحدي تقول:" دماؤه ستكون شرارة بالضفة، وستخرج بإذن الله مجموعات تقاتل المحتل باسم الشهيد مازن".
ناهد التي خصّت "الرسالة" بذاك السر الذي أخبرها إياه مازن بعد ارتباطه بها، وهو التخطيط للعملية التي نفذها الشهيد محمد هزاع الغول عام 2002، والذي كان رفيقًا له في الجامعة وبمثابة صديقه الصدوق، إضافة إلى مشاركاته في التصنيع والتخطيط للعمليات التي جرت في الضفة.
خان يونس الأحب لقلبه!
كان لدينا الفضول لمعرفة المزيد عن ذاك الحر المتزن في حركاته وبسماته وحتى سكناته، مازن الذي كان يتجنب الظهور ويتحفظ على التقاط الصور، طلبنا من زوجته أن تخبرنا عن أكثر الأماكن في غزة أحبها الشهيد وتعلق قلبه فيها بعد مسقط رأسه طوباس، لم نكمل السؤال حتى كانت الإجابة بابتسامة منها:" خان يونس .. مازن بحب خان يونس وأهلها وأغلب إجازات نهاية الأسبوع بنقضيها هناك".
احتاط قلبي من فقدانه واستودعته الله فرده إليّ شهيدًا
تداركت ناهد الموقف وعادت ابتسامتها ليزداد مداها على وجهها، وتابعت القول:" كل غزة بأهلها وطيبتهم بحبها ولكن خان يونس الأقرب له".
مازن الذي عشق الضفة وخاف عليها وبكى لها، تختار ناهد غزة لتبقى هنا، وعند سؤالنا لها "لماذا غزة، واختيار الإبعاد عن الأهل؟"، نبهت بأن لغزة مكانة عظيمة، فهي التي عاشت بين أهلها أجمل ست سنوات مع مازن ولم تشعر بأنها بعيدة عن أهلها، مؤكدة بأن الضفة وغزة شعب واحد.
كان من الصعب على ناهد أن تترك أرشيف ذكرياتها مع رفيق دربها هنا في غزة وترحل، وكان الأصعب بالنسبة لها:" صعب عليا أترك قبره".
رُد إليها شهيدًا
انتهى عرس الشهيد مازن فقها على أرض الكتيبة التي احتضنته حرًا قبل ست سنوات واليوم تحتضن حفل تأبينه ووداعه.
تلك القوة التي ظهرت خلالها ناهد وأدهشت من حولها بابتسامتها، انتباها لحظة ضعف وغصة في القلب، وعن ذلك قالت: "أصابني الضعف عندما رأيت صورة مازن مبتسمًا في حفل التأبين، بكيت بحرقة لأنني وحدي من تعرف سبب هذه الضحكة وسبب لحيته المخففة على غير عادته وحتى قميصه الذي ساعدته بارتدائه".
بردت نار شوقها بعد كرامات الله لها والتي كان منها طيور السنونو التي تجمعت فوق رأسها، وطيف مازن الذي ما فتئ يزورها ويهمس لها "الحمد لله".
الشاي الذي أعدته ناهد لزوجها على الحطب كان آخر ما شربه من يداها، أما آخر الهمسات كانت على أنغام موال حزين لشاعر الثورة الفلسطينية أبو عرب، استند على إثرها رأس مازن على الجدران دون رغبة منه في البوح عن سبب غصته المفاجئة.
غصة مازن تبعتها غصة في قلب غزة لفقدها ضيف ثأر لها مرًارًا، وعلى ما يبدو لن تكن ناهد وحدها من ينتظر هذا الثأر، فحكاية ابن طوباس سيكملها من بعده ابنه محمد الذي حمله يحيى السنوار رئيس المكتب السياسي في غزة على كتفيه وكأنه بداية الوفاء لرفيق أسره لمازن فقها.