انتظرت آية (اسم مستعار) حتى غرق والدها في نومه، وسارعت لفتح نافذة غرفتها، بعد أن غُلقت الأبواب، وقفزت منها دون أن تلبس حذاءها، هاربة من قسوة الحياة في بيت والدها الذي انفصل عن أمها منذ سنوات.
انطلقت مُسرعة من بيت والدها الواقع شمال القطاع، متوجهة إلى بيت ذوي أمها في مدينة غزة، وطوال طريقها لم تتوقف عيناها عن ذرف الدموع، ونار الحسرة تحرق قلبها على أيام عاشتها، تخاطب جدران غرفتها.
تحدت "آية" ابنة الثانية عشر ربيعاً ظلام الليل للوصول إلى بيت والدتها، التي فرق بينها حكم الحضانة لوالدها-الذي لم تألف وجهه- وأُجبرت على العيش في سجنه خادمة لزوجته.
حكاية آية بدأت قبل أن تبصر النور؛ فقبل عدة سنوات عادت أمها "سناء" (اسم مستعار) إلى قطاع غزة، بعد أن كتب لها الانفصال عن زوجها المقيم في الخارج التي لم تقض معه سوى شهرين.
وضعت سناء طفلتها "آية"، في غزة، وعلى مدار أربعة أعوام من عمرها، لم تألف فيها وجه "بابا"، حيث تفاجأت الأم بعودة طليقها إلى غزة.
تقول آية وهي تستحضر الماضي، "بعد أن طلبني إلى حضانته بحكم من المحكمة، ما زالت تلك اللحظات عالقة في ذهني حين انتزعت بقوة الشرطة من والدتي".
وتضيف أن حضانة والدها لها بـ"القوة" تركت آثاراً سلبية عليها، من حيث تحصيلها العلمي الذي تراجع بعد أن كانت متفوقة.
وتذكر والدتها سناء، أن الشرطة والمحاكم تدخلت لمحاولة إرجاعها لها لمصلحة ابنتها، لكنه رفض وأصرّ على أخذها، كونه حاصل على حكم محكمة للاستضافة، غير آبه بمشاعر ابنته وعدم معرفتها له من قبل.
قصة "آية" ليست الوحيدة، حيث رصد معد التحقيق عدة حالات تأثرت سلباً نتيجة انفصال الوالدين، وهو ما دفعنا للتقصي عن أسباب المشكلة وما ينتج عنها من تأثيرات قد تدفع الأطفال إلى سلوكيات خاطئة منها السرقة والتسول والبيع على مفارق الطرقات، أو ما قد يتسبب لهم بأمراض نفسية.
مؤشر خطير
توجهنا للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، باعتباره جهة حقوقية تقدم المساعدة المجانية للنساء على الأخص في المحاكم الشرعية، ومن بينها قضايا الحضانة والضم، وطرحنا لهم ما نحمل من قصص لأطفال تأثروا بالسلب نتيجة انفصال الوالدين.
مركز حقوقي: نستقبل عشرات الحالات من أبناء المطلقا
وعلّق المحامي والمختص في هذه القضايا بالمركز، سمير حسنية على قصة "آية"، بأن القانون عاجز عن أن يقف أمام هذه الحالة؛ لأن موضوعها لم يتم متابعته منذ البداية.
ويؤكد حسنية لمراسل "الرسالة نت"، أن المركز يستقبل حالات كثيرة من هذا النوع، خاصة بعد أن يحصل الأب على حكم الضم ويتم تنفيذه، وهروب الأطفال من والدهم إلى والدتهم، معتبراً ذلك "مؤشراً خطيراً".
ورأى أنه من الضروري التدقيق في حصر الحضانة بين الوالدين-الأم والأب- وعدم جوازها لأي طرف ثالث يطلب حضانة الأولاد.
وأشار إلى أن الحضانة هي حق للطفل المحضون وليس للحاضن، ويجب أن تصب في مصلحة الطفل، ومراعاة احتياجاته النفسية والاجتماعية وغيرها.
أداة للابتزاز
وخلال جولة أجراها معد التحقيق على مدار أكثر من شهر، لبعض المؤسسات المعنية باحتضان مثل هذه الفئة من الأطفال الممزقين بين حضانة الوالدين المطلقين، فقد طرقنا باب المركز الفلسطيني للديمقراطية وحل النزاعات، المختص الأول في قضايا مشاهدة الوالدين المنفصلين لأبنائهم.
التقينا مدير الوحدة القانونية في المركز يونس الطهراوي، حيث أكد على ضرورة أن يكون الانفصال في الحياة الأسرية سلساً ووفق أخلاق الدين الإسلامي، مستدركاً "لكن ما يحدث في الطلاق عكس ذلك".
ووصف الطهراوي ما يجري خلال الانفصال بـ "الحرب"، وكأن كل طرف يريد أن يعاند الآخر"، مضيفاً "الأسوأ من ذلك هو استخدام الأطفال في هذه الحرب، وخاصة في موضوع الحضانة والمشاهدة والاستضافة".
حل النزاعات: الأسر المفككة تستخدم أبناءها أداة للابتزا
وأوضح أن الوالدين يستخدمان أطفالهما كأداة للابتزاز والضغط على بعضهما، للحصول على الطلاق، ومن ثم تنازل الأم عن حضانة الأطفال خاصة في السن المسموح لها قانونياً، مؤكداً وجود حالات كثيرة بدأت بالانتشار بشكل مقلق.
الملتقى الأسري
خلال وجودنا في المركز انتقلنا إلى أحد أقسامه المختصة باستضافة أطفال الوالدين المنفصلين عن بعضهما، يسمى "الملتقى الأسري"، حاولنا الحديث مع عائلة كانت تنتظر قدوم طفلتها التي تعيش في حضانة والدتها، لكنها رفضت.
بعد وقت قليل، إذ بالطفلة "آلاء" وتبلغ من العمر 4 أعوام تُمسك بيد جدتها، جاءت من أجل رؤية والدها المنفصل عن أمها منذ ولادتها.
وعند حديثنا مع الجدة أم أحمد التي جلست في الخارج وتركت حفيدتها تذهب لوالدها، اختصرت كلامها بعبارة "الكبار يخطؤون والأطفال يدفعون الثمن"، مشيرةً إلى أن ابنتها انفصلت عن زوجها بعد كثرة الخلافات بينهما، ووصولهما إلى طريق مسدود.
ولفتت إلى أن قلة الوازع الديني من أهم الأسباب التي تؤدي إلى انفصال الوالدين والتفكك الأسري.
وبحسب الملتقى، فإنه استقبل منذ بداية العام الحالي، 108 حالة من الأسر المطلقة لمشاهدة أطفالها، والعدد قابل للزيادة، في حين استقبل في العام الماضي 98 حالة فقط.
وفي السياق، تعقّب شيرين البياري المرشدة النفسية في المركز قائلةً، إن مشكلة الانفصال بين الوالدين خطيرة جداً، وتؤثر سلباً على الأطفال قبل الأهالي، وتظهر آثار نفسية وسلوكية عليهم.
وذكرت البياري خلال حديثها مع مراسل "الرسالة"، أن الآثار النفسية التي يتعرض لها الطفل، تتمثل بالإحباط والقلق والاكتئاب، بالإضافة إلى الخوف والخجل والشعور بالإهمال، وربما يصل إلى انحراف سلوكي وعدواني، ومشكلة التبول اللاإرادي.
وأوضحت أن الصراع القائم بين الأب والأم يكون على حضانة الطفل، وهو ما ينعكس سلباً على نفسية الطفل، مؤكدةً أنه لكل من الأب والأم دور في حياة الطفل، ويجب أن يأخذ كل واحد منهما دوره حتى بعد الانفصال.
مضطرب السلوك
استكمالا لجولة البحث، فقد توجهنا إلى مستشفى الطب النفسي التي تعتبر الجهة الأولى المعنية بمرضى الصحة النفسية، لمعرفة طبيعة الأمراض النفسية التي تلحق بهذه الفئة من الأطفال.
الباحث والمختص في الطب النفسي بالمستشفى أسامة عماد، أكد أن التفكك الأسري وانفصال الوالدين، يؤدي إلى نشوء جيل غير متوافق ومضطرب السلوك، ومن الممكن أن يكون ضحية مجموعات غير أخلاقية، أو يتجه للإدمان.
وأوضح أن انفصال الوالدين يفقد الطفل مصدر الحنان والعطف، ويكون مشتتا بين الأب والأم، لافتاً إلى أن الحضانة يجب أن تكون متمثلة بتوافق الزوجين.
وبيّن أن هذه الفئة تحتاج إلى توفير الدعم النفسي واحتضانهم قدر الإمكان، وحل المشاكل الناتجة لديهم وتوفير مخصصات اجتماعية لهم قدر الامكان، والتواصل مع الجهات المعنية مثل الشؤون الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المحلي.
سرق خاله!
في قصة أخرى عايشها معد التحقيق، حيث استغل الشاب (م.ف) حالة تفكك أسرته وانفصال والديه عن بعضهما، ليسرق مبلغا ماليا من أحد أقاربه.
ويعيش الشاب الوحيد ابن الثامنة عشر من عمره، في حضانة والدته منذ كان في السنة الثانية، بعد انفصال والديه عن بعضهما، وترك والده له، في بيت صغير عند أخواله.
وتعمل والدته موظفة في إحدى المؤسسات الحكومية، وتتقاضى راتباً يكفيها للعيش مع ابنها، وعدم سؤالها الناس، لكن ابنها المذكور استغل ذلك في منحى سلبي، وأقدم على سرقة مبلغ يقارب 3 آلاف دولار من خاله، وفق ما روى أحد أقاربه لمراسل "الرسالة".
وبحسب أحد أقاربه، فإن "م.ف" صرف المبلغ على التدخين وتناول حبوب الاترامادول وإيجار السيارات، وغيرها من الأمور.
وبعد أن اتضحت تفاصيل السرقة، حاولت أمه إخفاء جريمة ابنها والتستر عليها، وعدم إيصالها للشرطة، والابلاغ عنه، وذلك بإرجاع المبلغ المسروق من راتبها إلى شقيقها.
التستر على مثل هذه الجريمة دون حساب أو عقاب، ربما يكون دافعاً له بارتكاب قضايا سرقة أخرى، أو ربما أكبر، والسبب وراء ذلك عدم وجود أب يوجهه إلى الطريق الصواب، واستغلال خوف والدته عليه كونه "ابنها الوحيد".
تشكّل خطرا
بدوره، أكد المقدم أيمن البطنيجي الناطق باسم الشرطة الفلسطينية بغزة، أن غالبية المتورطين في قضايا السرقة وغيرها من الجرائم، هم من لديهم مشاكل أسرية، ويعانون من تفكك أسري.
وذكر البطنيجي في حديث مقتضب مع "الرسالة"، أن هناك حالات كثيرة وآخذة بالتزايد ممن يرتكبون الجرائم من هذه الفئات، حيث أنها تشكل خطراً على المجتمع، مبيّنا أنه كل من يضبط يتم اتخاذ الاجراءات القانونية بحقه.
الشرطة: غالبية جرائم السرقة ناتجة عن التفكك الأسر
وهو ما تطابق مع ما ذكرته المرشدة الاجتماعية البياري، أن الأطفال الذين يعانون من التفكك الأسري يهربون من الواقع، ويتوجهون لرفقاء السوء، ويكونون "لقمة سائغة" لأن يصبحوا منحرفين ومرتكبي جرائم.
وأوضحت أن المشكلة تتفاقم في قطاع غزة، والاعداد ترتفع في كل عام عن سابقه، مشيرة إلى أن السبب الرئيسي فيها يكمن بعدم وجود سكن ثابت للأسرة، بالإضافة إلى مؤثرات خارجية من أهل الزوجة أو الزوج.
نطبق القوانين
وفي ظل ازدياد نسبة الطلاق في القطاع، فإننا طرقنا باب القضاء الشرعي للاطلاع على طبيعة عمله بهذا الشأن، فقد ذكر الدكتور حسن الجوجو رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي، أن دورهم يقتصر على تطبيق اللوائح الموجودة في القانون الفلسطيني فقط.
وأوضح الجوجو خلال حديثه مع معد التحقيق، أن القانون حدد سن حضانة الأم المطلقة 9 سنوات للذكر و11 للأنثى.
وبيّن أن القوانين التي تنص على حضانة الأطفال، لا تتلاءم مع الواقع الحالي الذي يعيشه القطاع، وتحتاج إلى بعض التعديل، كونها كانت من أيام الخلافة العثمانية، داعياً إلى رفع سن حضانة الأم لأطفالها إلى 15 سنة بدلاً من 11.
القضاء الشرعي: وظيفتنا تطبيق القوانين، وهي لا تتلاءم مع الواق
وتابع "الأصل أن يعاد النظر في مثل هذه القوانين بحيث تجمع بين الأصالة والحداثة، وتواكب التطور العلمي والتقني في شتى المجالات".
في المقابل، يذكر حسنية أن الحضانة في معظم الدول العربية والاسلامية تكون بسن متقدمة، من 13 فما فوق إلى 15 فما فوق، على خلاف قطاع غزة.
ونبه إلى ضرورة رفع سن الحضانة إلى 15عامًا أي لسن البلوغ، وأن يعطى بعدها الصغير الخيار، في أن يبقى لدى أمه أو أبيه، "والأساس أن تكون الحضانة محصورة بين الزوجين"، وفق قوله.
وبحسب المادة (391) من قانون الأحوال الشخصية التي صدرت في العهد العثماني عام 1917م، فقد حددت السن الذي يستغني فيها الصغير عن رعاية الأم سبع سنوات للذكر، وتسع للأنثى، وبعد انتهاء الفترة، يُجبر الأب على أخذهم من الأم أو الحاضنة.
وقد تم إجراء تعديل على المادة السابقة في قانون حق العائلة في عهد الإدارة المصرية، لسنة 1954، والمطبق حالياً في قطاع غزة، إلى المادة (118) إذ نصت على أنه (للقاضي أن يأذن بحضانة النساء للصغير بعد سبع سنين إلى تسع، وللصغيرة بعد تسع إلى إحدى عشرة سنة، إذا تبين أن مصلحتهما تقتضي ذلك).
يذكر أن نسب الطلاق في قطاع غزة ارتفعت خلال عام 2016 مقارنة مع السنوات السابقة، فقد بلغت (3.188) حالة بنسبة (16.6%) وهي نسبة أعلى من العام الماضي، إذ بلغت نسبة الطلاق للعام 2015 (14.6%) بواقع 2627 حالة طلاق، أي بفارق 561 حالة طلاق زائدة، وعليه يكون هناك ارتفاع في نسبة الطلاق 2% مقارنة بالعام الماضي.
أسلوب توفيقي
بعد رحلة التقصي والبحث عن الحالات، كان لا بد أن نطرق باب رجال الإصلاح وعلماء فلسطين، فقابلنا المختار رفيق أبو الجبين أحد رجال الإصلاح، ووضعنا كل ما يجري مع هذه الفئة من العائلات والأطفال على طاولته.
كان رد أبو الجبين لمراسل "الرسالة"، أن دور رجال الإصلاح يقتصر على التوفيق بين الوالدين لحل المشكلة والمحافظة على الأطفال من الضياع والتشرد، والانحراف.
"الإصلاح": دورنا يقتصر على التوفيق بين الأزواج
وأضاف "نحاول بقدر الإمكانيات أن نعمل على حل المشكلة بالتوافق بين الزوج والزوجة، لكن لا يوجد لدينا حل جذري لذلك".
وأكد أبو الجبين على ضرورة تسليط الضوء على هذه الفئة من الأطفال، وتضافر الجهود، من أجل إيجاد حلول جذرية تضمن لهم الحياة الكريمة.
وفيما يتعلق بالقضايا التي تبدي فيها الزوجة المطلقة استعدادها لتربية أطفالها حتى بعد انتهاء مدة الحضانة، أجاب أبو الجبين "نحن كرجال إصلاح نوافق أن يكون الأطفال بين أحضان أمهاتهم، خاصة إذا كان الأب غير سوي أو مريض نفسي، والأم تعمل وقادرة على إعالتهم".
الجهات المختصة مقصرة
وبالعودة إلى حسنية المحامي في المركز الفلسطيني لحقوق الانسان، فإنه حمّل الحكومة والقانون المسؤولية عن مصير الأطفال ضحايا الانفصال، قائلاً "هناك دور مفقود في المجتمع، وهو دور الحكومة والمسؤولين والقانون في أن يعطي الحق للحكومة بسحب الطفل لأسرة بديلة إذا كان معرضا للضياع".
وأضاف "يجب على الحكومة الانتباه لهؤلاء الأطفال"، مشيراً إلى وجود مؤسسات خاصة للمراقبة كوزارة الشؤون الاجتماعية والشرطة والنيابة، وهذه كلها عليها دور كبير جداً في رقابة تربية الأولاد".
وأيّد ذلك المختص في الصحة النفسية أسامة عماد، حيث أكد على ضرورة ان تأخذ الجهات الحكومية والمختصة دورها في الحفاظ على هذه الفئة من الضياع، داعياً إلى إعادة تقييم وضعهم، ومعرفة العدد الفعلي لهذه العائلات وهؤلاء الأطفال.
وأكد على ضرورة التنبيه لمخاطر هذه المشكلات والانفصال على الأطفال، بالإضافة إلى تفعيل دور المحاكم القضائية المجلس التشريعي وسن القوانين، مشيراً إلى أنها تحتاج إلى تضافر جهود الجميع في آن واحد، والتنسيق بين وزارتي الصحة والشؤون الاجتماعية والجهات المختصة الأخرى.
وفي نهاية المطاف، فإن الأطفال الممزقين بين حضانة والدهم والدتهم المطلقة، عرضة للانحراف السلوكي، وارتكاب الجرائم، لذلك أردنا من خلال هذا التحقيق دق ناقوس الخطر، من أجل تحرك الجهات المختصة لحفظ هذه الفئة من الأطفال، وحمايتهم وتوفير الحياة الكريمة لهم، خاصة في ظل ارتفاع أعدادهم، وزيادة نسب الطلاق خلال السنوات الأخيرة.