تسود حالة من القلق والترقب لدى موظفي السلطة في قطاع غزة جراء "التقاعد المبكر"، وسط تساؤلات مرة عن المصير المجهول الذي يقذف عباس مليوني مواطن في غزة إليه، الأمر الذي يعيد للأذهان أحداث الانقسام عام 2007 والفوضى الوظيفية التي تلتها جراء دعوة الموظفين للاستنكاف عن العمل حينها.
وثمة تداعيات مالية واجتماعية ونفسية ستطال الموظفين الذين سيحالون للتقاعد، فضلاً عن الخلل الإداري والوظيفي الذي سيصيب الوزرات، والشواغر التي من الصعب أن تمتلئ بذات الكفاءات التي اكتسبت خبرة على مدار سنوات عملها، لاسيما في مجالي التعليم والصحة.
قرار كارثي
في إحدى المدارس وتحديدا مدرسة شهداء رفح، انتابت المعلمات حالة من القلق وباتت قضية التقاعد الشغل الشاغل لهن، فــ "الكآبة" تسيطر على جو المدرسة، وعن ذلك تقول مديرة المدرسة سهير الهمص، موضحة أنها تحاول بشتى الوسائل إخراج المعلمات من الحالة النفسية السيئة إلا أنها لم تفلح، وكان "التقاعد" المسيطر على حديثهن والمزاج العام بالمدرسة.
"القضية تفرض نفسها كيف لا وانا التي كنت أفكر كيف سأقضي أيام التقاعد بعد الستين، فكيف الآن وأنا سأحال إليه قبل 11 عاما، وأنا في قمة النشاط والعطاء الوظيفي" تقول الهمص.
سهير المعيلة لعائلتها بعد وفاة زوجها بينت أن الجميع بات في حاله أشبه "بالجنون" من شدة متابعة الصفحات الرسمية وملاحقة الأخبار حول ما وصفتها بالكارثة التي ستحل عليهم، موضحة أن جميع الموظفين في نصف الطريق وأبناؤهم في الجامعات ولديهم مصاريف طائلة.
وتعتبر أن القرار سيقتل آلاف الطاقات وسيقضي على جيل بأكمله كون المدرسات هن من صاحبات الخبرة، مشيرة إلى أنها وطاقمها من المعلمات اجتهدن خلال العام الماضي لتحصل المدرسة على المرتبة الأولى على مستوى المدارس الثانوية في محافظتها، متسائلة كيف سيكون الحال بعد إحالة جميع مدرسات الثانوية العامة للتقاعد المبكر.
وفي وزارة الصحة كانت قضية التقاعد هي المسيطر على تصرفات الموظفين الذين انشغلوا بتتبع الأخبار عبر الهواتف وحتى سؤال زملائهم حول ترتيبات التقاعد ومن ستشمل.
أحد الموظفين والذي فضل عدم ذكر اسمه "للرسالة" اشتكى من حالة القلق التي انتابته وزملاؤه من وقت إعلان قرار التقاعد المبكر، وتحدث عن عدم وجود خيارات أمامهم سوى القبول بالأمر الواقع.
يقول الموظف والذي يعمل كإداري داخل الوزارة: "سيستقر راتبي التقاعدي على 1200 شيكل ماذا ستكفي؟"، مردداً "حسبنا الله ونعم الوكيل".
أثار اجتماعية
الاخصائي الاجتماعي زهير ملاخة اعتبر أن التقاعد المبكر سيصاحبه أثار نفسية واجتماعية سيصاب بها الموظف كالفراغ والاكتئاب خاصة إذا صاحب القرار محاذير بعدم ممارسة أي نشاط آخر، موضحا أن الموظف سيشغر بفراغ واضطرابات في نظرته لذاته كونه غير فاعل، ولا يقدم خدمات للغير.
وأشار إلى أن الموظف سيشعر بحالة من العجز أمام عائلته ودوره وأثره الذي يقدمه للآخر ومدى نفعه للمجتمع، مبينا أن وجود الرجل لأوقات طويلة في المنزل سينعكس سلبا على علاقته بالأخرين وعلاقته بزوجته، مبيناً أن الموظف غير المعتاد على الجلوس في المنزل قد يصبح منطويًا ومتقوقع حول ذاته، وهو ما يؤدي للاكتئاب المسبب لأمراض جسدية بناء على الوضع النفسي السيئ.
ودعا ملاخة للتعامل بحكمة مع الأمر من قبل الموظفين من خلال إيجاد بدائل وعدم الاستسلام للأمر الواقع، من خلال التخطيط لبرامج تطوعية وترفيهية وممارسة الرياضة.
إجراءات قانونية
وفي السياق، حذر الناطق باسم وزارة الصحة في قطاع غزة، د. أشرف القدرة من خطورة إجراءات السلطة ضد موظفيها في قطاع غزة، مبيناً أن 40% من الكادر البشري يمثلون عصب الحياة الصحية في القطاع أصبحوا مهددين بالتسريح من وظائفهم.
وأوضح أن 3900 كادر بشري ينتظرون اجراءات وقف خدماتهم للمرضى في قطاع غزة، من بينهم 942 طبيباً في مختلف الأقسام، و876 ممرضاً ممن يعملون في أقسام العمليات الجراحية، والعناية المركزة، بالإضافة الى 436 موظفا في الخدمات المختلفة، و661 اداريا و200 من فنيي التحاليل والمختبرات و221 من الصيادلة.
ولفت الى أن وقف هذا العدد من الكادر الصحي يمثل "الرأس الأخير في مثلث الموت" الذي شكله رئيس السلطة الفلسطينية في قطاع غزة، مضيفاً: "إن هذه الاجراءات هدفها المزيد من الخنق لمواطني غزة، والقيام بما عجز عنه الاحتلال".
بدوره، كشف نقيب موظفي السلطة الفلسطينية في قطاع غزة، عارف أبو جراد، أن نقابته تضع اللمسات الأخيرة مع عدد من القانونيين والمحامين في الضفة الغربية وغزة لرفع قضية أمام محكمة العدل العليا برام الله للطعن على قرار الحكومة إحالة الموظفين للتقاعد الإجباري المبكر.
وشدد أبو جراد في حوار خاص مع "العربي الجديد" على أن جميع الإجراءات التي اتخذتها السلطة الفلسطينية وحكومتها مؤخرًا في قطاع غزة غير قانونية وتتعارض مع قانون الخدمة المدنية خصوصًا وأن كل موظف وقع على عقد عمل فردي وليس جماعي، وهو ما من شأنه أن يبطل قرارات الحكومة.
ولفت إلى أن السلطة الفلسطينية أحالت مؤخرًا جميع موظفي وزارة المالية التابعين لها بغزة للتقاعد الإجباري المبكر بالإضافة لعدد من موظفي وزارة الصحة وسلطة الطاقة، عبر قرار اتخذ من قبلها دون العودة لمؤسسة التأمين والمعاشات.