جلست عبير جبر المشهراوي في منزلها بمدينة غزة أمام جهاز الحاسوب لتناقش رسالة الدكتوراه، من جامعة في السودان، والتي كانت قد أجلتها مرارا، حتى اقتنعت أن ما حدث من كابوس زلزل حياتها خلال شهور الحرب يجب أن يكون دافعا للاستمرار، وليس سببا للتراجع عن الرسالة السامية التي خلقت لأجلها.
عبير هي معالجة نفسية، قد تبهرك صفحتها على فيس بوك حينما تقلب في الصور المنشورة عليها، مليئة بالألوان، بالضحكات مع الأطفال، بمساعدتهم على تجاوز الألم، من خلال مبادراتها النفسية والتي تقدم الدعم للأطفال ضحايا الحرب.
تعلم تماما ما سببته الحرب من أوجاع في الجسد والنفس، لجميع من عاش تفاصيلها، وربما هذه القصص التي رويت والتي لم تروَ، كانت تبدو وكأنها أساطير، لم تحدث عبر التاريخ الطويل من قصص الإبادة التي تعرضت لها الشعوب في بقاع الأرض.
ثم تحولت عبير المشهراوي إلى جزء من القصة، ككل أبناء الشعب الفلسطيني في غزة، حينما جاء الفقد، فانتزع من دواخلهم شيئا من الحياة، ودخلوا في دوامة الأحزان دفعة واحدة.
تمت خطبة عبير قبل الحرب بثلاثة أشهر، تصف قصتها، وتحكي ذكرياتها وكأنها في حلم بعيد تتمنى أن تصحو منه للحظة أو أن يكذبه أحد: "بعد الحرب بخمسة أشهر استهدف خطيبي بالقرب من مستشفى المعمداني، استشهد فورا، ودفن هناك، واليوم الذي استهدف فيه كان هو اليوم الذي حددناه موعدا لعرسنا، الرابع عشر من فبراير من 2024 "
تكمل عبير: "دفن دون أن أودعه، لم يتركوني أراه، عانيت كثيرا، أصبت باضطراب النوم وقلة الأكل والشرب، وإنكار كامل لاستشهاده، كنت قد قررت أن أترك عملي، كنت أتمنى أن تأتي اللحظة التي أقابل فيها إبراهيم بأسرع وقت".
لكن من جهة أخرى، تواسينا كلمات الشهداء، ويبدو فقدهم دافعا للتحدي كما تقول عبير: "كنت أتذكر كلماته.. كوني قوية، لا أريد أن يكسرك شيء"، وتضيف "فقدت والدي وأنا طفلة، وفقدت خطيبي أيضا، كنت أتذكر كلامهما، كوني قوية، كانت أمي تقول لي: أبوك يحب البنت القوية، وخطيبي يقول لي: كوني دائما قوية، فقررت أن أكون".
تقول: "تخطيت الصدمة رغم كل شيء، وأكملت عملي، خرجت بمبادرات لتقديم الدعم في المدارس وأماكن الإيواء، وعدت لنشاطي، وهنا حينما شعرت أنني سأتجاوز أحزاني استشهدت أختي، فعدت إلى قوقعة الأحزان، ولكن بدعم أمي، راسلت أساتذتي في الجامعات السودانية، حيث كانت دراستي قد توقفت بسبب حرب السودان، ثم حرب غزة.
جلست عبير في منزل العائلة في غزة، وحولها كل أفراد العائلة، ترتدي ثوب التخرج، وتقلب صفحات الرسالة، تراجع وتحلل وتجيب على أسئلة المناقشين لها عن بعد، حتى حصلت على درجة الدكتوراة بامتياز، فرحة بين كل الحزن الذي ألم بها، فرصة جديد لتقليب صفحات حياتها والبدء من جديد بكل الأمل، لأجل غزة وحدها.
تضيف:" وصلت إلى ما أريد، ناقشت الدكتوراه، تذكرت دم إبراهيم الذي ترك على حجر وأحضر لي، ورائحته الزكية، تذكرت كلام والدي، ذكرى أختي، التي كانت داعمة لي في كل فقد، واللحظات الصعبة الكثيرة التي تعرضت لها في هذه الفترة القصيرة، ونهضت من جديد أثناء إعلان الأساتذة عن بعد حصولي على درسة الدكتوراه في علم النفس والعلاج النفسي، ومن بين دموعي شعرت للمرة الأولى بأنني يجب أن أتخطى، وأنهض، وعلى كل فلسطيني أن يفعل ذلك.
الدكتورة عبير المشهراوي، ختمت حديثها قائلة: "فقدت كل شهاداتي السابقة، لكني أكملت، انتصرت على حربين، حرب السودان، وحرب غزة، وعدت إلى تقديم الخدمات لجميع الفئات في غزة وفي كل المناطق، بل ناقشت الرسالة بعد ثلاثة أشهر من استشهاد أختي".
تضيف: "كانت أمي هي أول النساء وآخرهن إلى جواري، بعطائها وحكمتها وصبرها دفعتني لإكمال المسير، وتجاوز الحزن، وهذه هي طريقتنا الوحيدة في غزة لتحدي الاحتلال".