"الغالي في النقب".. ملجأ زوجات الأسرى لخطف لحظات الفرح

ارشيفية
ارشيفية

ياسمين عنبر- الرسالة نت

لم تعش زوجة الأسير الفلسطيني معاناة تغييب زوجها وراء القضبان فحسب، فما إن تصبح "زوجة الأسير" حتى تدخل إلى حياتها مصطلحات ومهام لم تكن في حساباتها، فهن يدركن أنهن أمهات أوكلت لهن مهمات عظيمة ليكنَّ بذلك حصون أزواجهن وقلاعهن التي سيعودون إليها يومًا.

"مواعيد الزيارة، أسئلة أطفالها "أين بابا"، أسماء السجون، مراكز التحقيق، البوسطة، شحرور، مرفوضة أمنيًا"، زيارات المحامي هي بعض المصطلحات الجديدة التي تقتحم حياة زوجة الأسير، إضافة إلى أنها تصبح الأم والأب والإدارة المالية ومسؤولة الشؤون الخارجية للبيت.

الرسامة المغربية إلهام المغيث التي كانت تقيم في فرنسا، كانت ذات هوى فلسطيني، ليتوافق القدر مع أمنيتها في زواجها من فلسطيني، فما إن تزوجت من محمد نزال، حتى دفعت ضريبة فرح الفلسطينيين مبكرًا حين  خطفوا زوجها بعد 22 يومًا من زواجهما، وغيبوه وراء القضبان.

              ****      "لعبة السعادة"

لم تكن تعلم المغيث أن "فيلمًا كرتونيًا" حضرته في صغرها سيكون لها دليلًا ومرشدًا لطريقة خوضها معترك الحياة بعد أن أصبحت "زوجة الأسير".

الفيلم الكرتوني الذي حرصت المغيث على حضور كل حلقاته كان يتضمن فتاة صغيرة عاشت ظروفًا قاسية جدًا، وسيطرت على قلبها قسوة الوحدة، فكانت تلجأ في كل حلقة إلى وسيلة فرح تتناسى من خلالها مصاعب الحياة التي تواجهها.

الشخصية الكرتونية "الفتاة الصغيرة" كانت تلجأ لمواهب واحتفالات تأخذ بها نفسها من دوامة التفكير في مشاكل الحياة ، فمرة تخوض تجربة الفرح مع نفسها، وفي أحيان أخرى مع صديقاتها، ما أسمته مع الأيام "لعبة السعادة"، لتصبح روتينًا يوميًا بالنسبة لها.

مرت السنون بإلهام ولفحتها عواصف الزمن القاسية، ما أفقدها طعم الحياة وهي تعيش غربة في فرنسا، وأهلها في المغرب، وزوجها في سجن النقب في فلسطين.

بدأت المغيث ممارسة لعبة السعادة بمفردها، حيث في بلاد الغربة لا أحد معها يشاركها تفاصيل الوجع، فلجأت إلى مواهبها وهي الطبخ والرسم ومواهب أخرى كانت تقضي وقت حزنها بها فتجد نفسها قد خطفت فرحًا ولو للحظات.

أحبت المغيث بعد فترة أن تشارك زوجات الأسرى ومن يعانين من بعد أزواجهن هذه اللعبة، فبدأت بالتفكير في كيفية إشراكهن معها بهذه اللعبة.

تعود المغيث إلى بدايات سجن زوجها وتحكي لـ"الرسالة" عن كيفية بحثها عن زوجات الأسرى وسؤالها عن بعضهن، ليصبحن عددًا لا بأس به بعد فترة قصيرة، تقول: "لم أكن أعلم أن زوجات الأسرى يعانين الأمرين هكذا، حتى تعرفت عليهن عن قرب، وسمعت شكاويهن وعلمت أنهن جميعًا يقاسين من عثرات الحياة التي وضعت أمامهن".

كانت أول خطوات تعاضدهن وتخفيف وطأة البعد عنهن أن أعلنت أنها سترسم أزواجهن ليرسلن هذه الرسومات إلىهم داخل السجون، إضافة إلى أنها ستجمع من لا يمتلكن صورة واحدة داخل إطار رسمة ليطبعنها ويأخذنها كهدايا إلى أزواجهن.

               *** مجتمع مصغر

بعد فترة من قربها من عائلات الأسرى وتعرفها عليهم، قررت أن تنشئ مجموعة على الواتس آب وأطلقت عليها  "الغالي في النقب" وجمعت فيها كثيرًا من زوجات الأسرى لتكون بعد ذلك مجتمع مصغر ينقل أصواتهن إلى أزواجهن في السجون.

ما إن يزور الحزن واحدة من زوجات الأسرى لا سيما ليلًا حتى تجد البقية منهن حولها كورود يعالجن حزنها وينسينها الضغوطات التي مرت بها خلال يومها، ما جعلتها تدخل في موجات الكآبة.

لم تقتصر هذه المجموعة على الزوجات فقط، بل وصل خبرها إلى الأزواج داخل السجون، لا سيما سجن النقب، ما أدى إلى شعور الأسرى بفرحة عارمة لتواصل زوجاتهن ومؤازرتهن لبعضهم البعض.

تصف المغيث لـ"الرسالة" يوم الإفراج عن زوجها والذي كان قبل شهر تقريبًا، وشعورها أنها لم تستطع استقباله كباقي زوجات الأسرى كونها في فرنسا، وكيف التففن الزوجات حولها عبر هذه المجموعة وقيام كل واحدة منهن بعمل أدخل السرور إلى قلبها، تقول: "كنت أشعر أن يوم الإفراج لم يمر إلا بحزن كبير، فرأيتهن حولي كفراشات يصنعن لي سعادة لم أكن أتوقعها".

نسرين غزال زوجة الأسير مالك عبده إحدى زوجات الأسرى التي تواجه معتركات الحياة بقلب حديدي، وتصادف آلامًا لا يمكن وصفها بدءًا من مرحلة تجاوز أسئلة بناتها الثلاث عن أبيهم وليس انتهاء بتعب المحاكم الذي لا تستطيع وصفه، ومنعها من الزيارات.

تعلم نسرين أن اجتماعها وزوجات الأسرى في هذه المجموعة، كانت ليهونَّ شعور الوحدة على بعضهن، تقول نسرين: " قد لا نعرف بعضنا لو التقينا وجهًا لوجه صدفة ...ولكننا نهون الليل على بعضنا بدردشات وضحكات وأحيانًا بكاء".

 كما تدرك أنهن عالم مصغر عن عالم مسجون، وهي تعتبر أنهن سفيرات الحب لرجال غيبتهم السجون، وتضيف: "نتحايل على الوحدة ليلًا غالبًا بإعدادنا القهوة أو الشاي أو حتى مأكولات شهية ونتحدث مطولًا".

لم تكن هذه المجموعة للدردشات فقط، بل كل واحدة فيها تدرك تمام الإدراك أن عليها دورًا يجب أن تؤديه تجاه هؤلاء الزوجات، فنسرين كما يسمونها "شيف الأسرى" تأخذ على عاتقها إعداد الطعام وإرسالها لأهل الأسير يوم تحريره.

في "الغالي في النقب" تحاول الزوجات قدر استطاعتهن أن يكن سفيرات للأمل والسعادة رغم ما يعصف بهن من موجات حزن، وتصف نسرين أنفسهن بأنهن "الشوكة التي تقف في حلق العجز وحلق الوحدة ليلًا".

حين تشعر أنها ليست بخير تنضم إليهن، وحين يزداد شعورها بالحزن تبتعد فتجدهن يختلسن النظر على حسابها عبر الفيس بوك  بتعليق بسيط أو بتعليق مضحك، وكأنهن يقلن لها "نعرف أنك موجودة خلف الشاشة ولكن كوني بخير" في حرص منهن على انضمامها لهن رغم ما تشعر به.

رسائل الأمل التي لا تكاد تخلو "المجموعة" منها كل يوم تشعرهن بالثقة بالتحرير والفرج القريب وتزرع في قلوبهن بذرة الأمل.

تضحك نسرين حين تحدث "الرسالة" أن انسحابات اللقب تتوالى مع خروج كل أسير، مؤكدة على أن التواصل يبقى حتى وإن قل، تبقى زوجة الأسير وكأنها للأبد زوجة أسير بتضامنها مع من عايشت معهن لحظات الألم والأمل.

البث المباشر