يحرص السائق ياسر أيوب من مدينة غزة على تعبئة خزان وقود سيارته من محطة محروقات واحدة فقط؛ لأنه "يشكّ" بأن محطات كثيرة تغشّ في السولار.
يقول ياسر إنه "يشعر" بذلك من خلال ارتفاع معدّل احتراق الوقود في سيارته يوماً عن آخر، واختلاف صوت المحرّك؛ الأمر الذي اضطره إلى لزوم محطة "اطمئن لأصحابها"، بحسب تعبيره.
لم ينف ذلك سائقو سيارات عمومية آخرون استفسرنا منهم حول الأمر، ووجدنا أنهم، كحال ياسر، لا يدخلون إلى أي محطة تعبئة في طريقهم، إنما يعتبرون أنفسهم "زبائن" لدى محطات معيّنة.
ويعترف السائقون، الذين قابلهم "معد التحقيق" بأنهم لا يستطيعون التمييز بين البنزين أو السولار المغشوش من غيره، باعتبار أن المحطات التي تقوم بالغش تستخدم محروقات مشابهة لمواصفاتهما، وكان ذلك محطة انطلاق للتقصّي حول حقيقة هذا الفعل.
يسير في شوارع قطاع غزة أكثر من 72 ألف مركبة بين (ملاكي، تجاري، عمومي/باصات، مركبات الحكومة)، بحسب إحصائية وزارة النقل والمواصلات حتى 1 أغسطس 2017.
ويتوزّع على مستوى محافظات قطاع غزة نحو 160 محطة تعبئة وقود، وبمقارنتها مع أعداد المركبات، يكون نصيب كلّ محطّة نحو 450 مركبة.
وبحسب أرقام الهيئة العامة للبترول، فإنه يتم تزويد محطات المحروقات في غزة بحوالي 600 ألف لتر وقود يومياً، (12 مليون لتر شهرياً).
محاضر ضبط
لم يكن سهلاً في البداية اكتشاف المحطات التي تغش السولار، أو حتى طبيعة المواد التي يتمّ استخدامها في الخلط. لكن "معدّ التحقيق" اطّلع على محاضر ضبط في أرشيف جهاز مباحث التموين لمحطات محروقات تبيع وقوداً مغشوشاً.
من تلك المحطات مثلا، محطة "ر.ج" في محافظة الشمال، تمّ فيها ضبط صهريج يحتوي على 11 ألف لتر سولار مغشوش.
إضافة إلى ضبط وقود مغشوش، لم تذكر كميته، لدى محطة "ن.ج" في مدينة خانيونس، بعدما تقدّم خمسة سائقين بشكاوي إلى الهيئة العامة للبترول بشأن أعطال أصابت مركباتهم بفعل سولار مغشوش.
يتم استخدام 3 أنواع من المواد النفطية في غش المحروقات
ومن القضايا المثيرة، تلك التي تتعلق بمحطة "ل" في مدينة غزة، حيث استطاعت مباحث التموين ضبط صهريج يحتوي على 15 ألف لتر بنزين مغشوش!
وقد وضعت هذه القضية معد التحقيق أمام تفاصيل خطيرة، حيث علم أن المباحث ضبطت الصهريج على متن سيارة نقل بترول تخرج من "مخزن مستأجر" غرب مدينة غزة، ومتوجهة نحو المحطّة منتصف ليلة عيد الأضحى، العام الماضي 2016.
واتضح أن المخزن، وهو عبارة عن بركس كبير، كان مخصصاً لخلط البنزين قبل نقله إلى المحطة؛ من أجل عدم لفت انتباه السائقين، وجهات الرقابة.
ونتيجة لمحضر الضبط، صدر حكم بإغلاق المحطة "ل" ستة شهور، ودفع غرامة مالية قدرها 20 ألف دولار.
استطاع "معدّ التحقيق" الوصول إلى أحد العاملين في المحطّة المذكورة، ممن انتقلوا إلى العمل في محطة محروقات أخرى، بعد الإغلاق. وبعد رفض وتمنّع، وافق العامل على الكشف عما سمّاه "وصفة الخلط"، التي قال إنها تجلب لأصحاب المحطة أرباحاً بآلاف الشواقل يومياً.
يتم استخدام 3 أنواع من المواد النفطية في غش المحروقات، وهي "زيت 10" ومادة "الوايت سبيريت" أو ما تُعرف بـ "التربنتين"، ومادة "النفطة".
يقول العامل، الذي تحفّظ على نشر اسمه، إن "زيت 10" الأكثر استعمالاً في الغش؛ بسبب أنه أقرب لمواصفات السولار، ويتمّ شراؤه من الجانب الإسرائيلي بسعر 1 شيكل للتر، فيما يتم خلط البنزين بمادة "الوايت سبيريت".
ويضيف أنه يتمّ شراء "زيت 10" من الخارج، واستيراده عبر معبر كرم أبو سالم التجاري جنوب قطاع غزة، داخل خزانات بسعة ألف لتر، ثم تخزينه في مستودعات بعيدة عن المحطة، ليتمّ الخلط بعيداً عن "أعين الحكومة"، وفق تعبيره.
وهنا توصّل "معدّ التحقيق" إلى أن عمليات الخلط والغش لا تتم داخل المحطات، إنما في أماكن خارجها، لذلك كان من الصعب ضبط عينة من وقود مغشوش؛ "لأن أصحاب المحطات يتحيّنون الأزمات غالباً"، كما قال العامل، الذي أكد أن أصحاب المحطات لديهم مستودعات كبيرة، يتواجد أغلبها في المناطق الشرقية لقطاع غزة، ويستخدمونها في التخزين "وأشياء أخرى"، على حد تعبيره.
وذكر أن الخلط يتم مناصفة أو بنسب معيّنة، علما أن العينة التي أخذتها مباحث التموين للكمية المضبوطة (15 ألف لتر) لدى محطة "ل"، تبيّن أن الخلط فيها كان بنسبة 70% بنزين مضافاً عليها 30% مادة وايت سبريت!
لا يتمّ تحصيل ضريبة "البلو" على المواد النفطية المستخدمة في الغش
ويؤكد العامل -الذي رفض أن نقابله أثناء عمله وصحبنا إلى منزله-أن العاملين في المحطات وحدهم يستطيعون تمييز السولار المغشوش من رائحته!
وقد علم "معد التحقيق" من مصادر داخل معبر كرم أبو سالم أن هذه المواد النفطية لا يتمّ تحصيل ضريبة "البلو" عليها -رسوم توريد الوقود-من قبل السلطة الفلسطينية في رام الله، بينما كانت وزارة المالية في غزة تفرض "رسوم استيراد" قدرها 100 شيكل فقط على كل ألف لتر، حتى نهاية عام 2016.
ولا تملك وزارة الاقتصاد إحصائية بكميات "زيت 10" التي تدخل قطاع غزة، باعتبار أن الزيوت بجميع أنواعها تدخل القطاع تحت مسمى "زيوت سيارات" فقط، ودون تصنيفات.
وأظهرت إحصائية "الاقتصاد" -حصل عليها "معدّ التحقيق"-أن 2379 طن زيت سيارات دخلت قطاع غزة في النصف الأول من العام الحالي 2017 (6 شهور)، إضافة إلى 558 طن زيوت معدنية.
وبحسب لجنة تنسيق البضائع في وزارة الاقتصاد، فإن 323 طناً من مادة "الوايت سبريت" دخلت قطاع غزة عبر معبر كرم أبو سالم، خلال العام 2016 فقط!
تعلية
في مكتب مقابل لساحة كبيرة تمتلئ بالمراجعين في مقر الهيئة العامة للبترول بغزة، التقينا المهندس يحيى العطار، نائب المدير العام للهيئة، للحديث حول موضوع التحقيق.
يعترف العطار بأن الخلط هو لزيادة كمية المحروقات من خلال استخدام المواد النفطية، المذكورة أعلاه.
وفي الوقت الذي قال فيه العطار إن معلومات وصلتهم بأن هذه المواد النفطية تستخدم في الخلط، أكد أنه لا يوجد لديهم محاضر ضبط لمحطات تقوم بالخلط!
ورغم ذلك، حصل "معد التحقيق" على نسخة من كتاب رسمي صادر عن الهيئة العامة للبترول، موجّه إلى وزارة المالية يطالبها برفع "التعلية الجمركية" المفروضة على مادة "النفطة" التي يتم استيرادها عبر معبر كرم أبو سالم؛ لأنه يتم خلطها مع مادة السولار.
وتخاطب الهيئة، في الكتاب، دائرة الجمارك في المالية بأن ترفع "التعلية الجمركية" لتصل إلى مبلغ (2000) شيكل لكل طن، بدلا من (100) شيكل!
بشأن ذلك، يقول العطار: "نعم، نحن أبلغنا الإدارة العامة للجمارك في وزارة المالية بزيادة التعلية الجمركية على الزيوت البترولية والمواد النفطية المستخدمة في الخلط".
وأضاف: "أوصينا أن تقارب التعلية تكلفة سعر لتر السولار والبنزين الاسرائيلي، بحيث يكون الخلط غير مجدٍ لدى محطات الوقود التي تلجأ للغش".
وعلى ضوء ذلك، يجزم المقدّم محمد المعصوابي مدير مباحث التموين بأن رفْع التعلية ساهم في القضاء على ظاهرة الغش في المحروقات، ويعتقد أنها انتهت مع نهاية العام الماضي.
لكن ضابطا في "مباحث التموين" أخبر "معدّ التحقيق" أنهم ضبطوا في شهر أغسطس الماضي، وقوداً مغشوشاً لدى محطة "ب.ر" شمال قطاع غزة، وكميات أخرى في مخزن غرب مدينة غزة !
وأفاد الضابط، الذي تحفّظ على اسمه عبر اتصال هاتفي، بأن كميات السولار التي تم ضبطها في المخزن، كبيرة، وأن صاحبها تذرّع بأنه يستخدم السولار المغشوش بإضافته على مادة "الزفتة" التي تستخدم في طلاء الشوارع وأسطح المنازل.
بيد أن الضابط نفى هذه الحجّة، وقال إنه يتم بيع هذه الكميات لسائقين، وأن "الضبطية الأخيرة" لهذا المكان، لم تكن الأولى!
في الأثناء، يقول مدير مباحث التموين، المعصوابي، إن غش الوقود يزيد في الأزمات، مؤكداً أن طواقمه تراقب السوق، وأنها تضبط مباشرة أي كميات وقود مغشوش يتم رصدها، أو أي محاولات لخلط المحروقات.
احتراق أعلى
الثانية ظهراً، ينحني ميكانيكي السيارات أبو محمد الشيخ (44 عاماً) على محرّك سيارة رُفع غطاؤها الأمامي، في ورشته غرب مدينة غزة.
كان الشيخ يقوم بتغيير "فلتر" سيارة لتركيب آخر نظيفاً.
أثناء ذلك، سأله "معدّ التحقيق" عن الأعطال التي قد يسببها تزويد محرّك السيارة بوقود مغشوش، فاعتدل وأجاب وهو يمسح يديه بقطعة قماش: "الزيوت كلّما زادت كثافتها، زادت درجة احتراقها".
وذكر أن السولار يجب أن يصل إلى درجة احتراق 246 مئوية؛ كي يصل إلى "الاشتعال الذاتي"، وبإضافة زيت عليه تصبح درجة الاحتراق أعلى.
وقال الشيخ: "عندما يكون السولار نقيا بدون إضافات تسير السيارة مسافة 8 كيلومترات على اللتر الواحد، وبإضافة الزيوت عليه تزيد المسافة، وتسير 10 كيلومترات، وهذا ما يُشعر السائقين بالرضى لكن أضرار ذلك أكبر".
وأضاف أن الزيت في الوقود المغشوش يتسبب في قِصر عمر الفلاتر في السيارة؛ بسبب ترسبه والتصاقه على جدار الفلتر.
وأكد الشيخ أن خطورة الوقود المغشوش ترتفع مع السيارات الإلكترونية الحديثة "حيث إن السولار المخلوط بزيت وما ينجم عنه من زيادة درجة الاحتراق، يتسبب بارتفاع حرارة المحرّك وتشويش للأجهزة، وقد يصل إلى احتراقه وتلفه".
وهنا، يقول العامل في المحطة، إنهم كانوا يحرصون على تزويد السيارات الحديثة بسولار صافي، فيما يخصصون السولار المغشوش للسيارات القديمة قبل عام 2000، والشاحنات والمركبات الكبيرة.
يخالف ذلك قانون حماية المستهلك رقم (21) لسنة 2005م، وتحديداً المادة رقم (3) التي توجب حماية المستهلك عند استعماله للسلعة أو الخدمة من حيث الجودة والنوعية.
لذلك، يوصي البروفيسور الكيميائي في الجامعة الإسلامية بغزة، نظام الأشقر، السائقين بعدم الالتفات إلى رخص الوقود بقدر الاهتمام بجودته، وأكد أن الغش في هذه السلعة يعتمد على تكرير سيء وغير نقي.
وقال الأشقر لـ "الرسالة": إن هذا التكرير يضفي تحسّناً ظاهرياً لكنه في أساسه مُضرّ للسيارة والبيئة على السواء، موضحاً أن بعض المواد التي تستخدم في الخلط قد تحتوي على مادة سامة محظورة، تسبب احتراقاً غير كامل، وظهور عوادم مضرّة للصحة والبيئة.
وهنا، يشرح المهندس عطية البرش المختص بتلوّث الهواء في سلطة البيئة بغزة، بأن احتراق الوقود في محرّكات السيارات يعتبر مشكلة بيئية عالمية، باعتبار أن الوقود خليط مكوّن من قطرات سائلة أو دقائق غازية يقدّر حجمها بأقل من 10 ميكرومتر (وحدة قياس)؛ تسبب مشاكل صحية كبيرة.
ومن المهم الإشارة إلى أن مراقبة جودة المحروقات في السوق الفلسطينية، وتأمين المواد البترولية طبقاً للمواصفات والمقاييس العالمية، تعتبر من مهام الهيئة العامة للبترول فقط، التي أنشأت عام 1994م بقرار من مجلس الوزراء آنذاك، وكانت تتمتع بشخصية مستقلة، حتى تم إلحاقها بوزارة المالية عام 2003.
شخص واحد فقط يقوم بالمتابعة والتفتيش على نحو 160 محطة وقود في القطاع
الأمر اللافت الذي استرعى انتباه "معدّ التحقيق" أن قسم "المتابعة والتفتيش" على محطات الوقود في الهيئة بغزة، المكلّف بالإشراف على نحو 160 محطة في القطاع، يتكون من شخص واحد فقط وسائق !
وبحسب العامل في المحطّة، فإن الرقابة تجري جولة لمرّة واحدة فقط، في شهر محدد من العام، وهذا الوضع أوجد بيئة مواتية لممارسة الغش.
ولا يوجد في فلسطين قانون ينظّم قطاع المحروقات؛ مما استدعى "الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة- أمان" إلى عقد جلسة خاصة في شهر يناير من العام الماضي؛ لإنشاء تحالف يعمل على إقرار مشروع قانون بذلك، بمشاركة مجموعة من المؤسسات الأهلية والخاصة.
وقد أكد الدكتور عزمي الشعيبي، مستشار مجلس إدارة أمان لشؤون مكافحة الفساد، أثناء الجلسة، ضعف الرقابة الرسمية على تزويد المحروقات للمستهلك الفلسطيني؛ ما أدى إلى بعض قضايا الغش في هذه "السلعة الاستراتيجية".
وبحسب فؤاد الشوبكي مدير الهيئة العامة للبترول، في تصريح سابق أورده موقع "الاقتصادي" في أكتوبر 2016، فإن مبيعات السوق الفلسطينية من الوقود المغشوش تبلغ سنوياً، نحو 800 مليون لتر!
إن الأهمية تتعاظم بضرورة وجود هذا القانون في قطاع غزة تحديداً، في ظل واقع متخم بالأزمات، يشكّل إغراء وفرصة لكثير من التجّار للتربّح بأي الوسائل، من بينها الغش، خاصة في قطاع الوقود.