أسامة جلالي
مجلة الادب الالكترونية
عرفه الجميعُ باسم "المهرِّج." لم يكن يَظهر إلّا في حفلات الأطفال التنشيطيّة، في روضاتهم، أو مدارسهم، أو منازلهم. ينزلُ من السيّارة بزيٍّ مزركش، وحذاءٍ طويل، وشعرٍ أشعث. يَعْبر الشارع. يدخل خلسةً، ليكونَ مفاجأةَ الحفل.
أذكرُه جيّدًا. كان صانعَ المرح في عيد ميلاد أخي. ظهر فجأةً، فعلا الصياحُ والموسيقى. بدأ يرقص، فتبعه الصِّبْية. راح يقلِّد مِشيةَ البطّ، وصوتَ القردة، كأنّه طفل سعيد وطئتْ قدماه الأرضَ لأوّل مرّة في حياته.
قبل سنين، في آب، رأيتُه في محطّة القطار. كان المكانُ مكتظًّا بالمسافرين، وهم يتململون، والكلُّ عائد إلى بلدته. دخل متشبّثًا بيد والده، مخبِّئًا وجهَه، محاولًا أن ينسِّق بين خطواته كي يبقى وراءه. مشيا أمتارًا معدودةً، ثمّ وقف الأبُ، وأسند ظهرَه إلى الحائط، ووجهُ الطفل ما يزال مغمورًا. أبعده عنه الرجلُ قليلًا. قلّب عيونَ الجميع بنظرةٍ واحدة. أحسّ أنّهم يعطفون عليه، فأعاد توجيهَ عينيه إلى الأرض.
كانوا ما يزالون يحدّقون به، يكادون يثقبون وجهَه. بدا عليه الاضطراب: "كيف أستطيع مواجهةَ كلّ هذا الجمع بعينين اثنتين فقط؟!"
فتح إحدى الحقائب، وأخرج منها قناعَ القطّ الشهير تومْ. غطّى به وجهَه دون عينيه. عادت إليه السَّكينة. ترك يدَ والده، واختار لنفسه كرسيًّا بين الناس، حاملًا معه علبةَ عصير، شرب منها عبر فتحةٍ في فم توم.
انطفأت الشموع، ولم يبق من المرطِّبات غيرُ ما التصق بالصحون. اختفى المهرِّج مجدّدًا. دخل الحمّامَ. بدأ ينظّف وجهَه من الصّباغ، تاركًا البابَ مفتوحًا. لحقتُ به حاملًا إليه المنشفة. رفع رأسَه ونظر في المرآة. التقت عيناه عينيّ، فدفع البابَ بقدمه.
إنّه ذلك الطفل، صاحبُ "الشهوة" السوداء التي تغطّي نصفَ وجهه الأيسر. هو نفسه طفلُ المحطّة بقناع "توم،" ذو العينين المنكسرتين المخفيتيّن وراء أبيه. لعلّه تذكّرني.
فتح البابَ وامتدّت يدُه إلى المنشفة. عاد إلى الحنفيّة من دون أن يغلق البابَ هذه المرّة. فركَ وجهَه مجدّدًا وكأنّه يحاول نزعَ وشمه الأسود. "مريحة مهنتي،" قال. "إنّها تبقيني بلا وجهٍ على الدوام. وحين أعملُ مع الأطفال، أشعرُ بأنّني أعوِّض سنواتٍ فاتتني بسبب هذه..." وضرب وجهَه، ثم تابع:
"الأفضل أن أعيدَ القناع ."
وخرج.