قائد الطوفان قائد الطوفان

في باحات الأقصى.. أطفئت الأنوار واشتعلت قلوب المقدسيين

الاقصى
الاقصى

غزة-ياسمين عنبر

وحده منظر قبة الصخرة من يستطيع انتشال قلب الحاجة السبعينية فاطمة السلوادي من مكانه، حين تجلس أسفل الشجرة الموجودة في فناء منزلها المتواضع كما اعتادت كل مساء، فهو منزل سلواني، يتربع على مشارف البلدة، تتوسطه شجرة فستق حلبي باسقة، ويلتصق به منزل عائلة يهودية مستوطنة.

جذع شجرة الفستق الراسخ في الأرض تراه الحاجة فاطمة وحده من يثبت ملكيتها وحقها في المكان، والذي غرسته يداها الخشنتان، كما عيناها التي تسر بأنوار القبة الذهبية كل ليلة، ونبضات قلبها تشعرها بالأمان لمنظر المسجد الأقصى من فناء منزلها، هذا المشهد الذي ينسيها أن بيتها قد يندثر يومًا بفعل التهويد والاستيطان.

ولأن ظل الشجرة هو المكان الذي تستظل به حين يسكن قلبها الوجع، ذهبت إليه وقت إعلان ترامب، فإذا بالصهاينة يعتلون جدران باحة الأقصى يعلقون علم (إٍسرائيل) عليها، ثم كانت الصاعقة أن أطفئت أنوار المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ما أدى إلى انطفاء قلبها.

للمرة الأولى ربما لاحظت الحاجة فاطمة أنوار منزل المستوطنين بجانب منزلها، وقد شعرت بالقشعريرة وهي تنظر إلى بيتها غير المسقوف لأن الاحتلال منعها ذلك.

هربت الحاجة فاطمة إلى داخل بيتها تبحث عن صور القبة والمسجد الأقصى على جدران منزلها، هذه الجدران التي منعتها من الانتقال إلى بيتها الملوكي الذي بنته في الضفة، خوفًا من استيطان بيتها المقدسي هذا وضياعه منها، وراحت تلهج بالدعاء أن تهدأ صرخات الشبان التي تناهت إلى مسامعها من باب العامود تشير إلى أن الأمور ستشتعل.

وحين تمس القدس بشيء تشعر أنها لن تحتاج إلى الاستغاثة بأبنائها لنصرتها، فهم حاضرون على أهبة الاستعداد لأي نفير أو هبة، تدرك ذلك تمامًا حين ترى صور المحتشدين المقدسيين، وقد اصطفوا لصلاة العصر أمام باب العامود رغم تجمهر المستوطنين، فكان التصاق أكتافهم ببعضها البعض مصدر عز وافتخار للأقصى، وقوة للقدس أيضًا.

وفي يوم الجمعة كانت القدس على موعد مع حشود أبنائها، حيث باب العامود، الذي يتكون من قوس ضخم يرتكز على دعامتين من الحجارة المنحوتة، وهو الشاهد على الشهامة المقدسية في كل الهبات التي حدثت في الأقصى، ولسان حالهم يقول: "أنا ابن القدس ومن هون مش متزحرح قاعد فيها".

وباصطفافهم على مدرجات باب العامود اجتمع الشبان يهتفون للقدس والأقصى، رافضين هذا القرار، والحزن يملأ قلوبهم، ولكن سرعان ما ينبعث إلى قلوبهم الاطمئنان حين يسمعون حاجًا ثمانينيًا، بكوفيته الفلسطينية يغضب في وجه المستوطنين ويقول لهم: "طز فيكم وفي كل قرارات ترامب أنا عمري أكبر من (إسرائيل)".

وعلى بعد خطوات قليلة منهم، يجلس الحاج غسان يونس، يستند إلى أحد الأعمدة والحزن ملء عينيه، والذي يلقبه الجميع بأبي هريرة، لأنه يطعم قطط الأقصى كل صباح، لم يأت ليطعمها كما اعتادت، وهو سارح الفكر يتساءل هل أحست القطط أيضًا بحزن القدس كما قلبي!

يعيد الحاج غسان من شروده مرور حشد من المستوطنين يقتادون شابًا بعمر الورد إلى البوسطة، وما لفته ابتسامة "أنس" مكبل اليدين، فيسترجع ابتسامات الشباب المرابطين الذين ظهروا في فيديوهات لهم في قاعات المحاكم الإسرائيلية وهم يقولون: "مؤبد لأجل الأقصى هاد شرف النا".

وكأنها محض صدفة أن يمر طفلان على عجوز يبكي على القدس وما آلت إليه، فينتشلانه من قمة ضعفه وشعوره بالخذلان، ليصبح أقوى من كل وثائق العالم، حين كان يبكي بحرقة وتنهمر دموعه بكل ما أوتي من حب للقدس، فإذا بالطفل الذي لم يتجاوز الثامنة بعد يهمس لصاحبه: "أنا مش معترف ب (إسرائيل) أصلًا عشان أعترف بقرار ترامب"، لتدرك أن الطفولة في القدس ثائرة أيضًا، كما أدرك الحاج بعد سماعه لحوار الطفولة التي كبرت أمام باب الأسباط في هبة البوابات الإلكترونية، أن عمر الكيان الصهيوني قصير جدًا.

وفي كل مأزق تمر به القدس، يثبت المقدسيون إيمانهم بفردانية مدينتهم في أنها البوابة إلى السماء، يثبتون ذلك بتجذرهم الذي يشبه رسوخ سور القدس منذ ما يقارب خمسمائة وسبعين عامًا، وتدرك أيضًا قول تميم البرغوثي حين قال: "والقدس تعرف نفسها.. فاسأل هناك الخلق يدلك الجميع.. فكل شيء في المدينة ذو لسان حين تسأله يبين".

 

البث المباشر