يعالج الموريتاني محمد ولد محمد سالم في روايته "دحّان" مفارقات من العلاقة الشائكة بين الشرق والغرب، من مقاربة محطات من الزمن الراهن في موريتانيا، وبالعودة إلى التاريخ الحديث للنبش فيه والوقوف على بعض النقاط التي ساهمت في بلورة صورة ضبابية قوامها سوء الفهم، وغلبة النظرة الأحادية وسيادة الأحكام المسبقة.
يرمز محمد سالم في روايته (دار روايات، الشارقة 2016)، من خلال شخصية بطله عبد الرحمن ولد الغوث الملقب بدحّان، إلى الاغتراب الذي يعانيه عدد من الشباب الموريتاني في بلدهم، وتأثير الفوضى والفساد على مختلف مناحي الحياة، وبشكل خاص في مجالات التعليم والعمل، ونتيجة لذلك يفقد عبد الرحمن حقه في منحة دراسية جراء هذه الظاهرة التي تغرق الجامعة ومجال التعليم، ثم يفقد حقه في العمل لأنه لا يواكب موجة الفساد ولا ينساق وراء الفاسدين.
دائرة ضياع
يمر بطل الرواية بتوترات تلقي بظلالها على حياته ودراسته وعمله، فتراه ينتقل من جانب الصدمة ومعاداة الآخر إلى التعلق به، يحضر دورة لتعلم اللغة الإنجليزية، يصطدم مع معلمة اللغة هيلين، ثم يقع تاليًا في حبها، أثناء المرحلتين يصرح بأفكار عن صراع متجدد مستعر بين الشرق والغرب، وخيبة الأفكار والأحلام في الوقت نفسه، يتأثر حين تشبهه بكاسترو، ويبدأ سرد سلسلة من الأفكار والأقوال المناهضة للإمبريالية والرأسمالية، محييًا الزعيم الكوبي فيديل كاسترو، ومناهضته المفترضة لأميركا.
وهناك أخته سكينة التي تعكس قوة المرأة الموريتانية وصلابتها في مواجهة الأحداث التي تلم بأسرتها وأهلها، وتحاول أن تكون السند لهم في الملمات والمحن، وتكابر على جراحها، وتأكيدها لأخيها ألا يفقد الأمل في غد أفضل، وألا يرتكن لسطوة اليأس ويبتعد عن مساره الحياتي المأمول.
من الجانب الفني يعتمد محمد سالم على صوت الراوي العليم الغائب بالموازاة مع صوت بطل الرواية الحاضر، مع التنويع في استخدام التراث الشفهي والذاكرة الحكائية الموريتانية
تتمثل المرحلة التالية في حياة بطل الرواية في الانتقال من خيبة الواقع إلى ضفة الحلم والحب، يتوق للتنعم بالفردوس المتخيل مع هيلين، لكن نكبته الموجعة تتجلى حين تهجر البلد من غير رجعة، ويعود هو إلى دائرة ضياع متجددة باطراد، تبقيه نزيل أوهامه وحبيس واقعه وقدراته المكبلة بكثير من القيود.
يدور نقاش سجالي بين عبد الرحمن والأميركي اغزافييه العامل في شركة أميركية تهيمن على اقتصاد البلاد، وذلك تحت قناع اتفاقيات مع الحكومة. يرفض اغزافييه طلب عبد الرحمن للعمل، ويخبره بأنهم لا يزالون بحاجة إلى مساعدتهم وأموالهم وخبرتهم، وأنهم ما زالوا في قبضتهم وتحت تصرفهم. يطرده من موقع العمل، ويتوعده بأنه لن يجد شركة واحدة للتنقيب تقبله بعد ذلك اليوم، فيتوعده عبد الرحمن بدوره بأنه سيأتي اليوم الذي يطرده فيه ذليلاً، ويؤمم شركته التي تستنزف خيرات بلاده.
تحت النار
تكون أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 المحطة التاريخية الحديثة التي تلقي بظلالها على البلد، بحيث يخرج معظم الأميركيين بطريقة مختلفة، وينعكس ذلك بشكل ما على الناس هناك، من ذلك مثلاً الانكسار الذي تركته المعلمة هيلين بذهابها الذي كان أشبه بهروب طارئ، وتركها عبد الرحمن هناك يعاني مراراته وحيدا، ويقاسي عذابات تحطم أحلامه ببناء أسرة والانتقال إلى أميركا لتحقيق أحلامه بالدراسة والتفوق.
من الجانب الفني، يعتمد محمد سالم على صوت الراوي العليم الغائب بالموازاة مع صوت بطل الرواية الحاضر، مع التنويع في استخدام التراث الشفاهي والذاكرة الحكائية الموريتانية، بالإضافة إلى التقاط رؤوس خيوط اللعبة الحياتية والسياسية والاقتصادية التي تحكم موازين العلاقات بين الناس من جهة، وبين الأنظمة والحكومات من جهة أخرى، وكيف يتم تقنيع تلك العلاقات بأقنعة معينة تربكها وتبقيها عالقة في بؤرة سوء الفهم المتسعة.
يرمز محمد سالم إلى أن الخلاص لا يأتي من الآخر، ولا من الخارج، بل ينبع من الداخل، ويكون بالتمسّك بالجذور والعودة إلى الأصول بعيدا عن أية ثرثرة غير مجدية. ويكون بطله دحّان الذي يصاب بلوثة الجنون، ويهيم على وجهه، معاندا مصيره، مختارا درب الصحراء ليعبر عن سخطه وغضبه من واقعه.