إثبات الخطأ الطبي من أعقد المشاكل في مساءلة الأطباء
مواطنون: الأخطاء تحدث نتيجة الإخفاق في تشخيص الحالات
حقوقي: القضايا غالبا يسدل عليها الستار في مجتمعنا
غزة- عدنان نصر- الرسالة نت
لازالت كوابيس الخوف والقلق تطارد أحلام بعض المرضى؛ بسبب شبح الأخطاء التشخيصية والطبية، فبين الفينة والأخرى نسمع بوفاة حالة مرضية جديدة ، أو بإصابتها بعاهات دائمة.
وفي ظل الأوضاع الصعبة التي يعيشها القطاع الصحي في قطاع غزة الخانق تبذل وزارة الصحة جهودا حثيثة للتغلب على نقص الأدوية والأجهزة الطبية التي تفاقمت في ظل الحصار الإسرائيلي الذي خنق مليون ونصف المليون نسمة في شريط ساحلي ضيق.
وتتعدد أشكال الأخطاء الطبية في المشافي الخاصة والحكومية نتيجة عدم الخبرة التي يفتقر إليها بعض الأطباء، كما أن نسبة كبيرة من هذه الأخطاء تحدث بسبب التشخيص الطبي غير المناسبة، ووجود أدوية متشابهة الأسماء.
"الرسالة نت" فتحت هذا الملف مجددا وجمعت شهادات بعض المواطنين الذين كانوا ضحية لأطباء غير متمرسين، مع الإشارة إلى أن الصحيفة تتحفظ على أسماء الأطباء محل الشكاوى في التحقيق.
غض نظر
بينما كان الطفل (و. ن) من حي التفاح شرق مدينة غزة يلهو بالكرة مع شقيقه الصغير أصيب بضربة قوية في أصبع يده الإبهام، وعندما نقله والده إلى مستشفى الشفاء لف الطبيب يده بالجبس بعد تصويرها، وطلب منه شراء رباط ضاغط بعرض 5سم، ولفه فوق الجبس، وغادر الطفل المستشفى بعد أن كتب الطبيب له علاجا مسكنا، وقال لوالده أن أصبعه أصيب "بالشعر".
بعد ثلاثة أيام، وفي منتصف الليل اشتد صراخ الطفل ، وانفجر من تحت لفافة الجبس جرحا سال منه الدم والصديد، فاصطحبه شقيقه إلى المستشفى، وبعد أن فحصه الأطباء قالوا إن الرباط ضغط على يده، ولحسن حظه أن جلبه إلى المستشفى وإلا كان سيحدث "غرغرينة".
أما الطبيب الأول فقد اختفى من المستشفى ولم يفلح والد الطفل بالحصول على اسمه أو على تقرير طبي يؤكد أنه عالج طفله، وحاول والد المريض تقديم شكوى ضد الطبيب لوزارة الصحة ولكن بسبب عدم حيازته للأوراق الطبية التي اختفت من كشوفات قسم الاستقبال صرف نظرا عن الموضوع.
تخمينات
وتتشح المواطنة أم شريف سكر من حي الشجاعية شرق مدينة غزة ثوبها الأسود منذ ثلاثة أسابيع مضت؛ بعد وفاة ابنها أنور نتيجة تشخيص طبي " غير دقيق" ، تاركا خلفه خمسة أولاد أصغرهم لا يتجاوز العام ونصف.
بدأت القصة عندما شعر أنور بمغص شديد وانتابه الغثيان والتقيؤ بعد وليمة أعدها لوالدته، ما دفعه للذهاب إلى المستشفى, يقول شقيقه عرفات في الثلاثين من عمره لـ" الرسالة نت": انتظرنا دقائق معدودة حتى شغر الطبيب المناوب بهاء، فأخبرته أن شقيقي يعاني من سخونة شديدة وحالة قشعريرة وهزال في جسده، فطلب من الممرض أن يعطيه حقنتين.
ويضيف أن شقيقه شعر بضيق تنفس، وأجريت له "تبخيره" ، وأخبره الطبيب أن يأخذه للمنزل وبمجرد أن يعرق سيتماثل للشفاء، و لم يسجل له أي علاج .
تفاقمت أوضاع المريض بعد عودته للمنزل، وأحس ببرودة شديدة وصاحبه قيء شديد طوال الليل، فعاد في الصباح إلى المستشفى، وأجرى الطبيب فحصا لنبض الضغط ليكتشف أنه لا توجد أية قراءات.
ويضيف شقيقه عبد الهادي أن الطبيب "أ .س" طلب منه أن يجري فحص عينة دم لشقيقه ريثما يصبح له مكانا شاغرا في قسم الباطنة ، وحضر في تلك اللحظة الطبيب "ع . م" إلى سرير المريض، وسأله عن الأشخاص المحيطين به ، فأخبره أنه بكامل قواه العقلية، وأشار الطبيب للممرضين أن يضعوا له وحدتي محلول، ولم تمض دقائق معدودة حتى أحس المريض بضيق شديد في نفسه.
طار عبد الهادي إلى الطبيب يخبره بما آلت إليه أوضاع شقيقه، فجاء مسرعا وحقنه بحقنة في مكان المحلول، سببت له آلام شديدة في صدره من الناحية اليمنى، وانتابته سعال شديد مع نزول دم من فمه.
مد الطبيب يده يتفحص مكان الآلام، وطلب من العائلة مغادرة الغرفة، مقررا نقله إلى العناية المركزة، وعند سؤاله عن السبب رد :" ربما أصابته جلطة في الرئة".
يلتقط شقيقه عرفات الحديث قائلا: استمر فحصه لمدة ثلاثة ساعات، وطلب مني الطبيب (ع.م) أن أجري له فحصا للبول ومزرعة للبلغم في مختبر خارجي نظرا لعدم توافرها في المستشفى.
وكان من ضمن التخمينات في تشخيص الحالة أن شطح طبيب بخياله بعيدا، متسائلا إن كان قد سافر للخارج، أو سلم على احد عائدا من السفر، معتقدا أنه مصاب "بأنفلونزا الخنازير."
رحيل
أحس عرفات بصحة شقيقه المتردية، وبينما كان غارقا في بحر من التفكير وإذا بباب قسم العناية يفتح أمام الزوار للاطمئنان على ذويهم، وكان الأطباء يجرون عملية منظار لشقيقه، وعلم بعد ذلك أنهم وجدوا بقايا طعام عالقة في حلقه تم سحبها بالمنظار.
حالة التخبط التي أصابت عائلة الفقيد دفعت عرفات أن يطالب بتقرير طبي مفصل، فاستجاب له الأطباء وأعطاه الطبيب "ف. ن" نموذج رقم (1) للسماح له بتلقي العلاج في"إسرائيل" بعد أن تدهورت صحته.
أنهى عرفات الإجراءات اللازمة للسفر، لكن ما أثار دهشته اتصال الطبيب "ف.ن" على قسم العلاج بالخارج يخبرهم أنه لا داعي لسفر المريض ، وطمأن أهله المتواجدين في المستشفى أن صحته ستتماثل للشفاء.
أصر عرفات على معالجة شقيقه في إسرائيل، بعد أن نفى شقيقه مصطفى صحة رواية الطبيب، ووافق الطبيب في النهاية على تحويله بعد أن تحملت العائلة المسئولية على عاتقها، مع العلم أنها لم توقع على أية أوراق عند خروج ابنها من المستشفى، كما أن الأطباء لم يرفقوا تقريرا مفصلا مع المريض عند تحويله لإسرائيل.
وفي صورة لتقرير دائرة العلاج في الخارج الذي حصلت عليه "الرسالة نت" من العائلة شخصت حالة المريض بأنها " صور أخرى من التسمم الدموي".
ويقول مصطفى الذي رافق شقيقه لتلقي العلاج في إسرائيل: كان الأطباء الإسرائيليون يسألوني دائما عن سبب تركيب جهاز التنفس في فم أنور.
وأجري للمريض فحوصات كاملة، وكانت النتيجة انه مصاب بالتهاب حاد في الرئتين وتلوث في الدم وترافقه حالة عصبية دائمة، كما أخبرته إحدى الطبيبات انه مصاب ببكتيريا نتيجة توصيل جهاز التنفس بفمه، وأنها تتغلب على المضادت الحيوية التي يتناولها، ومكث المريض أربعة أيام في العناية المركزة ثم وافته المنية, ويحمل شقيقه عرفات المسئولية عن وفاة شقيقه للأطباء بسبب إخفاقهم في تشخيص حالته المرضية، وعدم إرسال تقرير مفصل عند تحويله، مشيرا إلى انه اضطر إلى إرسال أسماء الأدوية التي كان يتناولها شقيقه إلى المستشفى الإسرائيلي كي يتسنى الأطباء من علاجه.
تشخيص "هالك"
ولا زال المواطن أبو مصطفى الترك من منطقة حي الرمال الغربي يتابع بفارغ الصبر ما ستفضي إليه نتائج التحقيق في قضية وفاة ابنته " منال صيدم" التي وافتها المنية نتيجة خطأ طبي منذ ثلاثة أعوام، حيث كانت تعاني من آلام شديدة في البطن، وأسفل الظهر مع نزيف مهبلي حاد، فتوجهت برفقة زوجها إلى مستشفى خاص في مدينة غزة، وبعد أن كشف مدير المستشفى "ث. ح" عن حالتها المرضية تبين أن أحد الجنينين هالك " متوفي" منذ ثلاثة أسابيع.
وأجرى لها عملية تنظيف، وأثناء العملية تم حدوث ثقب في الرحم ، ما اضطر الطبيب إلى فتح بطنها وإجراء عملية جراحية، ومن ثم إجراء عملية تنظيفات للبطن، وهو ما أقر به الطبيب المذكور في تقرير طبي موقع باسمه بناء على طلب العائلة حصلت "الرسالة نت" على نسخة منه.
ويضيف الترك أنه حدث تمزق في الأمعاء الدقيقة التي خرجت من الرحم أثناء العملية، وقرر الطبيب تسريحها بعد خمسة أيام، فحدث لها انتفاخ في البطن وتم تحويلها إلى مستشفى سوروكا في بئر السبع، وأجري لها عمليتان جراحيتان، لكن الوقت كان متأخرا جدا فقد أصيبت "بتسمم في الدم" كان سببا في وفاتها.
قيد الانتظار
بعد الحادثة المؤسفة تقدم والدة الفتاة بشكوى في وزارة الصحة ضد الطبيب، وكان رد الوزارة في خطاب من وزير الصحة إلى رئيس نيابة غزة " أعلم سيادتكم أن المستشفى الخاص المذكورة لا تتبع إداريا لوزارة الصحة، ويرجى التكرم بالاطلاع، ومخاطبة نقابة الأطباء بطلب التحقيق في هذا الموضوع، حيث أنها جهة الاختصاص في ذلك."
ومنذ ذلك الوقت ينتظر الترك ما ستسفر عنه نتائج التحقيق التي شكلتها اللجنة القانونية، والتي أخبرته قبل أسابيع قليلة أن القضية لا تزال قيد البحث، وسيتم فتحها بمجرد عودة الطبيب الذي غادر أرض الوطن.
وكان الترك توجه إلى عدة مؤسسات حقوقية مختصة لمتابعة القضية عن كثب، وخلصت نتائج التحقيق الذي أجرته "الهيئة المستقلة لحقوق المواطن" في تقريرها إلى أن عدم بيان النقابة السبب الحقيقي لوفاة صيدم منع استئناف متابعة الشكوى التي لازمها الجمود بسبب الأوضاع الأمنية الداخلية التي كانت سائدة في تلك الفترة.
وأوضحت الهيئة أن النيابة لم تستدع المشكو ضده لمتابعة ملابسات القضية والتحقيق معه، كما أن سير إجراءات النقابة كان بطئيا.
خلف الكواليس
وبحسب قانون العقوبات المعمول به في الأراضي الفلسطينية يترتب على الطبيب الذي ثبت وقوع إهمال منه، ثلاثة أنواع من المسؤولية: مسؤولية تأديبية تفرضها الجهة التي يتبعها الطبيب مهنيا أو وظيفيا، كنقابة الأطباء أو وزارة الصحة، ومسؤولية جنائية ومسؤولية مدنية تفرضهما المحكمة بناء على طلب النيابة العامة، أو مطالبة المتضرر أو ورثته.
ويقصد بالمسؤولية الجنائية حالة الشخص الذي ارتكب فعلا سبب ضررا للغير، ما يستوجب مساءلة القانون له بعقوبة جزائية. فقد يهمل الطبيب ويخل بالتزاماته المهنية، فينتج عن عمله هذا إضرار بالغير، ما يستوجب مساءلته جنائيا.
وتتنوع حالات الإهمال الطبي في إساءة معاملة المرضى، وإعطاء كمية مرتفعة من المخدر لا تتلاءم مع سن أو وزن المريض، وإعطاء وحدات دم ملوثة، وترك مواد في بطن المريض، وعدم دقة التشخيص, كما اختلفت النتائج التي خّلفها الإهمال، فبعضها نتج عنه ضرر بسيط بالمريض، لكن بعضها الآخر أدى إلى الوفاة.
وتشير مراكز حقوق الإنسان إلى أنها تلقّت خلال السنوات الأخيرة الماضية عشرات الشكاوى حول موضوع الأخطاء الطبية، وإهمال الجهات المختصة بالتعامل معها بجدية وحزم، رغم النتائج الوخيمة التي نتجت عن بعض هذه الحالات كالإعاقة أو حتى الوفاة.
وقال سمير زقوت منسق وحدة البحث الميداني في مركز الميزان لـ "الرسالة نت": إن أغلب قضايا الأخطاء الطبية غالبا ما يسدل عليها الكواليس في مجتمعنا.
وأضاف أن الوزارات العاملة في الأراضي الفلسطينية تعتبر سياسة النقد إهانة (...)، والمفروض أن يشجع هذا النقد لكشف بواطن الأخطاء ومعالجتها، معتبرا أنها ستطور العمل من الشوائب.
وأوضح زقوت أن مركزه يستقبل شكاوى المواطنين الذين تعرضوا للاهمال الطبي، وبدورهم يراسلون وزارة الصحة لفتح تحقيق في حال ثبوت حدوث خطأ طبي، مبينا أن تعاون الوزارة في هذه القضايا خطوة ايجابية ومهنية.
وأشار إلى أنه في عهد السلطة السابقة شهدت تقاعسا في إجراءات التحقيق بحيث كانت القضايا لا تخرج من بين أروقة وزارة الصحة.
وتعد مسألة إثبات الخطأ الطبي من أعقد المشاكل التي تظهر في دعاوي مساءلة الأطباء مدنياً عن أخطائهم المهنية.
يشار إلى أن ترميز الأسماء في التحقيق يأتي بناء على اعتبارات تخص المطبوعة لأن دورها إعلاميا توعويا وليس دورا قضائياً، وقد حاولنا معرفة رأي وزارة الصحة التي عزفت عن إبداء رأيها في هذا الموضوع.
ويبقى الباب مشرعا أمام المزيد من الضحايا ما لم تقدم شكوى بحق الأطباء المخطئين، أو تصك قوانين تحد من تلك القضية.