«ماذا لو زحف الفلسطينيون بصورة جماعية نحو قراهم وبلدانهم التي هجروا منها؟» الكابوس الذي كان يراود ليفي أشكول رئيس حكومة الاحتلال الأسبق بدأ يتحقق اليوم بعدما زحف عشرات الآلاف نحو السلك الفاصل بين قطاع غزة والأراضي المحتلة عام 1948، ضمن فعاليات مسيرة العودة الكبرى التي ستستمر حتى ذكرى النكبة منتصف مايو.
المسيرة التي تشكل وسيلة نضال جديدة ساعد على نضوجها عوامل عديدة أبرزها فشل مسار التسوية وقرارات الإدارة الأمريكية الجديدة ووصول الوضع الفلسطيني لحالة من التيه، أدخلت الاحتلال في حالة إرباك وقلق كبير سيكون لها تداعيات خطيرة فما قبل 30 أذار ليس كما بعده، خاصة أنها تأتي في توقيت حساس ضمن جهود دولية وإقليمية لتصفية القضية الفلسطينية وإلغاء الثوابت.
وليس من المبالغة الحديث أن المسيرة جاءت لتضيء شعاع نور وأمل في النفق المظلم سياسياً وإنسانياً وفصائلياً على المستوى الفلسطيني، بما لها من انعكاسات ودلالات مهمة ومفصلية:
أولى تلك الانعكاسات أنها خلقت وسيلة جديدة للنضال الشعبي الفلسطيني الذي لم يستخدم بالزخم المطلوب سابقاً، وخلقت حالة من الإجماع الشعبي والفصائلي على الثوابت الفلسطينية، وبعدما عاش الفلسطينيون عقدين من التيه بين دوامة المفاوضات وأوهام حل الدولتين التي انتهت بسيطرة الاحتلال على الجزء الأكبر من الضفة والقدس وحصار قطاع غزة.
ثانياً: أعاد الفلسطينيون الزخم للفعل الشعبي السلمي الذي لا يوجد من يختلف عليه محلياً أو إقليميًا أو دولياً وهو وسيلة نضال مقبولة من المجتمع الدولي بعكس المقاومة المسلحة التي وإن كانت حقًا للشعب الفلسطيني المحتل لكنها كانت تُجَرّم من المجتمع الدولي، ليصبح العمل الشعبي هو الورقة الرابحة اليوم.
ثالثاً: فرضت على الطاولة حق العودة والثوابت الفلسطينية التي كان هناك محاولات جدية لتصفيتها، الأمر الذي يشكل صفعة قوية لكل المخططات والصفقات التي يجري الحديث عنها.
رابعاً: المسيرة لها تداعيات على الوضع في غزة المحاصرة تحديداً كون المعادلة القائمة منذ عشر سنوات بين الاحتلال وغزة صفرية بمعنى إما حرب أو تهدئة، وأن مساحات النضال الشعبي غير قائمة في غزة نتيجة إعادة انتشار الاحتلال حولها في العام 2005، ولا يوجد احتكاك يومي بين المواطنين وجنود الاحتلال كما هو الحال في الضفة لكن هذه المسيرة والزخم الشعبي أكد أن غزة قادرة على خلق مساحات جديدة للاشتباك مع الاحتلال.
خامساً: سحبت الاحتلال إلى مربع هو لا يريده حينما يكون في مواجهة الشعب الفلسطيني الأعزل، وهنا قدرة الاحتلال على استخدام القوة العسكرية الهائلة التي يملكها تصبح محدودة كونه يواجه جماهير يتظاهرون بشكل سلمي واستخدام القوة بحقهم يسبب له حرجًا دوليًا كما جرى عقب المسيرة.
سادساً: المشاركة الشعبية الواسعة تفقد الاحتلال قدرته على تصدير رواية أنه يدافع عن مواطنيه وتجعل من الصعب عليه القول إنه يواجه مجموعات مسلحة تهدف إلى القضاء عليه مثل حماس، وبالتالي فإن مبرراته لقمع المسيرات تصبح غير قائمة، ورغم أنه حاول إلصاق المسيرة بحماس وأنها من تحرض الجماهير لكن العالم رأى كل أطياف الشعب في مسيرة سلمية تطالب بتطبيق القرار الدولي 194.
سابعاً: الحقيقة التي يجب إدراكها أن غزة خرجت بكل أطيافها السياسية والشعبية لأن الحرب ليست على طرف واحد، وإنما باتت تستهدف كل بيت في القطاع، ووصل الحصار والعقوبات ذروتها حتى باتت تهدد قوت أطفال الغزيين، وهنا كانت غزة تؤكد على أن معادلة الغذاء مقابل الاستسلام لن تمر.
فقد أسقطت غزة صفقة القرن وكل المشاريع التي يجري الحديث عنها وأكدت على أنها رقم صعب لا يمكن تجاوزه وأنها كانت وستبقى حامية المشروع الوطني وكل الحصار والعقوبات والأزمات التي تعانيها لن تدفعها إلى الانكسار والاستسلام بل على العكس ستدفعها إلى مزيد من الصمود والثبات.
ثامناً: لأول مرة منذ سنوات يرتفع الصوت الشعبي في غزة لهذه الدرجة التي أرعبت وأربكت من يحاصرها ويعاقبها بأنها لن تنتظر أن يقرر أحد متى تحيا ومتى تموت جوعًا، بل ستنتزع حقها وتكسر حصارها بيدها وستجبر الجميع على ذلك.
تاسعاً: أعادت غزة ترتيب الأوراق وفرضت نفسها على الأجندة الدولية والإقليمية والمحلية وقد ظهر ذلك من خلال التداعي لعقد جلسة لمجلس الأمن إلى جانب الجلسة الطارئة للجامعة العربية، والأهم أنها أعادت لأذهان العالم بأسره جوهر الصراع والقضية وهو حق عودة اللاجئين متسلحة بالسلمية والشرعية الدولية، وهو أمر من الصعب على العالم تجاهله.
عاشراً: غزة اليوم تطرح البديل العملي عن المقترحات السياسية والحلول التصفوية بما فيها حل الدولتين وتفرض على قيادة السلطة الفلسطينية بدائل شعبية للحلول السياسية التي فشلت سابقاً، كما أن هذا الحراك إذا ما نجح في الاستمرار والحشد وصولاً لاجتياز الحدود قد يضع على أجندة الاحتلال مشروع الدولة الواحدة لشعبين وهو أخطر ما قد يهدد الاحتلال الإسرائيلي كون المعركة الديمغرافية محسومة لصالح الفلسطينيين.