قائد الطوفان قائد الطوفان

الشهيد "عودة".. تفتقده مكبرات الفجر وجارته الفقيرة!

الشهيد أحمد عودة
الشهيد أحمد عودة

غزة- ياسمين عنبر

"فكيف سنوقف حزن المآذن حين تنادي صباحًا عليك ولا تستجيب"، نشيد يصدح بصوت عالٍ في أحد أزقة مخيم الشاطئ يدلك على بيت الشهيد "أحمد عودة" فلا يلزمك أن تسأل أحدًا لأن صوت مرثيات الوداع وحدها ستكون المرشد لك!

شراب التوت الذي يوزع للمهنئين في عرس الشهيد "عودة" حين تقدمه لك أخت الشهيد باسمة كان موجعًا، تمامًا كما عيون أمه التي تخبئ حكايا وذكريات ابنها، وقد كانت تود لو توزع الشراب نفسه حين تزفه إلى عروسه.

اقتربت مراسلة "الرسالة" ببطء من أمه للحديث معها خشية من سقوط دمعاتها بمجرد الحديث عن "أحمد" الذي كانت تخجل أن تطلب منه شيئًا لأن "لا" لم تكن في قواميس حياته.

بمجرد أن تبدأ أم الشهيد بسرد حكاياه وذكرياته، تيقنُ أن الاصطفاء لا يكون للشهداء فقط.. بل لأمهاتهم أيضًا!

"أحمد عودة" (19 عامًا) كان خامس الشهداء الذين لحقوا بشهداء يوم الأرض عام 1976 في سخنين وعرابة البطوف ودير كنا ومخيم نور شمس.

"ايش بدي أحكي عن أحمد لما أحكي"، تحكي أم عاشور والدة الشهيد "أحمد" لـ"الرسالة" حين لاحظت أننا بدأنا كتابة ما تسرده من قصص وصفات، مدركة أن كل أوراق الدنيا لا تكفي لحصر الحديث عنه.

كانت أم عاشور ترد على المعزين بأحمد بقولها "الله يبارك فيكم هادا عرسه" وكأنها تتلقى التهاني بفرحتها به.

"كيف تلقت أمه خبر استشهاده؟" كان سؤال الجميع، غير أن جارة لها سألتها أثناء الحديث معها وهي مترددة، لترد أم الشهيد ضاحكة: "كنت لابسة ثوب المجدل المزركش ورايحة أشم ريحة بلادي"، غير أن اتصالًا من ابنها الأكبر في طريقها إلى الحدود أرجعها حين أخبرها باستشهاد "أحمد".

"ربنا أعطاني خمسة ونذرت له واحد منهم"، كانت ترددها أم الشهيد "عودة" كثيرًا، تحكي: "أنا ابنة شهيد وخالة شهيدين قبل أن أصبح أم الشهيد".

لم نرَ دمعها إلا حين جاءت أم صديق ابنها الشهيد، وأخبرتها أنه حادثها قبل ثلاثة أيام من استشهاده ليقول لها عن رؤيا في منامه بأنه التقى بابنها الشهيد في الجنة وبشره بأن له مقعدًا بجانبه وهو يرتدي ثيابًا ناصعة البياض.

"حرق لي الكعكات فخاف أزعل"، تروي أم عاشور أن "أحمد" ساعدها في صنع الكعكات قبل يومين من استشهاده، فأوصته بألا يحرقه، غير أن شيئًا شغله فحُرق قليلًا، فقلب الكعكات على الوجه الآخر وجاءها ممازحًا: "كله إلا زعلك" وتكمل: "كان أهم شيء عنده بالحياة رضاي أنا وأبوه".

وصايا "عودة" لأبنائها بألا يتأخروا على مائدة الجمعة، قطعها قول ابنها الأكبر: "يمكن ناكل بالجنة"، فقد كانت مجرد مزحة إلا أنها باستشهاد أحمد كانت حقيقة، كما واقع "لمة الجمعة" التي ستكون فارغة من ضحكات أحمد كفراغ مقعده الذي لن يملأه أحد!

كانت ابتسامة الشهيد "أحمد" حاضرة في وجه أمه تملأ قسماته، كلما سردت عن حكاياه شيئًا، تمامًا كملامحه التي يتقاسمها وأخته "سلوى".

تكبيرات العيد كانت أول مراسم صباح الجمعة _يوم استشهاده_ في يوم "سلوى"، التي استيقظت ووجدت نفسها ترددها ولشدة استغرابها هاتفت أمها وأخبرتها "حاسة اليوم زي العيد"، لتبوح لها أمها أيضًا أن قلبها يرقص فرحًا بينما عيناها تدمعان بلا سبب منذ استيقاظها صباحًا.

غصة كبيرة استقرت في نفس "سلوى" أرهقتها بمجرد وصولها الخبر، إلا أنها ابتسمت حين قالت لـ"الرسالة": "بمجرد رؤيتي لنور وجهه وهو شهيد كأن أحدهم صب ماء باردًا بداخلي وأثلج صدري".

"كيف شعورك لو أصبحتِ أخت الشهيد" كان سؤال "أحمد" لسلوى قبل استشهاده بيومين، تحكي وهي تنظر إلى صورته التي خصصتها شاشةً لجوالها: "كان سندي ويميني يساعدني في كل شيء وحنانه كان لا يوصف".

لم تنسَ "الرسالة" وجعًا يسكن قلوبًا بعيدة عن العائلة والأم، فتلمست ألم الفراق في قلب صديق الشهيد "لقمان الأستاذ" والذي كانت لحظاته الأخيرة معه، وعلى وجهه سالت أول الدمعات عليه.

فمنذ ساعات الفجر الأولى تجهز "أحمد" ومجموعة من شباب مسجد "مرج الزهور" للانطلاق إلى الحدود، وفي قلب كل واحد منهم حلم بأن يكون المسير قريبًا ليس من بيوتهم إلى الحدود، بل من الحدود إلى بلداتهم الأصلية.

بمجرد وصولهم الحدود مازحهم واحد منهم كما يقول "لقمان": "اجينا 20 وحنروح 19"، ليضحك "أحمد" ويقول: "يمكن أنا ما أرجع"!

على حدود غزة وعلى بعد أمتار من البلاد المحتلة وقف "أحمد" وأصدقاؤه، يحكي "الأستاذ": "لاحظنا أن هناك طائرة تلقي قنابل الغاز باتجاهنا، فابتعدنا وأحمد رفض وقال لنا "لا أهاب الموت"، وما أن رفع رأسه ينظر للطائرة حتى أصيب برصاصة في جبينه وبعد دقائق استشهد".

أزقةُ ذاكرة "لقمان" ومصطبات روحه مليئة بضحكات أحمد، وابتسامته التي كان يتحدث عنها بسعادة، إلا أن الألم غص قلبه حين روى حكاية "جارة أحمد"!

فما أن نُشر خبر استشهاده، حتى جاءت جارة لهم في الحارة تهرول مسرعة، لتتأكد إذا كان أحمد هو الشهيد أم اختلط اسمه بآخر، وحين تأكدت بكت بكاء شديدًا.

"لقمان" الذي كان متماسكًا حين كان يسرد قصص "الشهيد"، بكى كثيرًا حين حكى أن "أحمد" كان يتصدق على جارته الفقيرة يوميًا لتطعم أطفالها، ليدرك أنها هي الخبيئة التي بينه وبين الله ولم يدرِ فيها أحد حتى أقرب الناس إليه!

"راديو صغير" كان قد اشتراه "أحمد" لم ينس "لقمان" حكايته، فقد اشتراه قبل استشهاده وخصصه لتشغيل القرآن عليه طوال ساعات الليل والنهار.

مكبرات الصوت التي كان ينادي عليها "أحمد" لإيقاظ أهل حيه لصلاة الفجر ستفقده، كما مئذنة مسجد "مرج الزهور" التي تربى بين جدرانه حين تنادي عليه صباحًا ولن يستجيب.

غادرنا عرس الشهيد وأنهينا المحادثة مع صديقه، ونحن نتيقن أن الضحكة التي رسمت على وجه "أحمد" حين التفت لصديقه "لقمان" قبل أن تخرج روحه ستبقى حاضرة لن تغادر ذاكرته، كما ستبقى مرثيات الوداع تصدح في قلب محبيه.

البث المباشر