يركضون حوله، يحاولون ما استطاعوا أن يفعلوا شيئا قبل مواراته الثرى، شيء ما، يقلب كل الموازين، ويعيد ياسر إلى الحدود أمام كاميرته إلى جانب أصدقائه المصورين، ينقلون الحدث، ويتضاحكون، دون أن يخطر ببالهم أن أحد الأماكن سيغادرها صاحبها فجر اليوم.
ربما يصرخون كثيرا أيضا، ويتعانقون، ويضربون الأرض بأرجلهم، ففي الحزن كل شيء يبدو مقبولا، ورفقاء الدرب أكثر المتألمين لفقدك، لا تستغرب، رفقاء الدرب، يعني رفقاء اللقمة، والعمل، والضحكات، والقصص، والغمزات، وحتى رفقاء الدمعات.
عشرات التفوا حول جثمان ياسر مرتجى أثناء إخراجه من ثلاجة الموتى في مستشفى الشفاء، يقبلون ويهتفون، بينما ضجت شبكات التواصل بصوره المختلفة.
هنا أغراضه، مبعثرة في أجزاء مكتبه، تنتظر رجوعه، هنا كاميرته في الركن قد أعلنت حدادها، وفي جوفها تحمل عشرات الصور، التي لم تعرض بعد، وهنا مئات الكلمات لرفقاء الصورة.
صورة من فوق
ولعل أشهر ما انتشر بين زملائه صورة التقطها ياسر عبر طائرة تصوير لمدينة غزة من فوق، وكتب عنها أنه يحلم يوما أن يصور غزة من الجو، وليس من الأرض، لأنه الشاب الذي بلغ ثلاثين عاما ولم يسافر يوما من غزة التي تحاصر فيها الأحلام لأننا فقط نريد الحياة بكرامة.
وفعلاً، لم تكتمل أحلام ياسر، ففي يوم الجمعة كان ينتظره قدر مختلف، كما يتذكر رفيق أحلامه رشدي السراج زميله في شركة عين ميديا، والذي يصف لنا ما حدث ظهر يوم الجمعة قائلا: كنا بعيدين عن القناص الإسرائيلي بحوالي 300 متر، وكنا نرتدي السترة الإعلامية وهويتنا معروفة بسبب سترتنا الواقية، بينما كانت سترة ياسر مفتوحة من الجهة اليسرى لبطنه، ومن هذا المكان دخلت الرصاصة إلى جسده فسقط أمامي بشكل مفاجئ".
ويضيف: "كان مستيقظا إلى حد ما قبل أن ننقله إلى المستشفى ونكتشف أن الرصاصة أصابته في مقتل، وأنا كنت أعتقد أنه مجرد جرح وسيندمل، لم أكن أعتقد أن رحيله سيكون بهذه السرعة !! ".
وفي استرجاع السراج لذكرياته مع رفيق العمل، يقول: "كان ياسر مبادرا، محبا لعمله، مبدعا في طرح الأفكار، يأخذ كل زوايا الفكرة بعناد وإصرار على التميز، وكان لفيلم بيسان لديه معزة خاصة، فقد ظل على تواصل مع بيسان وعائلتها حتى بعدما انتهى الفيلم، وقد أثرت فيه الأحداث تأثيرا كبيرا لأنه كان مع فريق الإسعاف حينما انتشلت الطفلة من تحت الأنقاض".
وعن سر محبة الناس لياسر يقول السراج: "له معزة في قلب كل من عرفه، والسر في ابتسامته الدائمة، فهو محب للجميع بدون أي أسباب، صداقاته قوية مع كل الصحافيين من كافة الأطياف، وكأنه رمز لوحدتهم جميعاً".
بيسان
ولطالما كان فيلم بيسان هو الأقرب إلى نفس الشهيد ياسر مرتجى، كما يقول مخرج الفيلم إبراهيم العطلة الذي قال للرسالة متذكراً: "تجربتي مع ياسر كانت تجربة مميزة، ويعتبر ياسر هو بطل قصة بيسان لأنه خاطر بحياته من اللحظة الأولى لإخراج الطفلة من تحت الأنقاض، وبغض النظر عن العمل فياسر يحمل شخصية تدخل القلب بسرعة، وحتى الطفلة بيسان كانت ترفض أن تذهب إلى مراجعة الطبيب لتطهير جرحها إلا برفقته، لأنها أحبته ووثقت به، فطريقته باللعب معها وحبه لها كان مختلفاً".
ويضيف العطلة: "طبيعة ياسر مرحة مع جميع البشر لذلك أحبته بيسان، ولم تكن توافق على التصوير إلا بحضوره، فقد أنعم الله عليه بشخصية تدخل القلب سريعاً".
وعن جرأة ياسر وجسارته في العمل، يؤكد بصوت حزين: "كان شاباً جريئاً، كان يقفز في قلب الحدث بسرعة البرق، فما أن كان يسمع عن أصوات القصف في الحرب الأخيرة إلا وتراه فوق الأنقاض، يساعد المسعفين بيد، وينقل الصورة بيد أخرى، وفي ذات الوقت وعن تجربتي معه فقد كان ملتزما بعمله، مهتما بالتفاصيل الدقيقة، مبدعا إلى أكبر درجة، منتميا لوطنه، فحتى أمنيته بالسفر كانت فقط لأجل إيصال الصورة إلى العالم بشكل أوسع".
هدية محمود
المصورة سماح شمالي زوجة المصور محمود حمده، تستعرض نيابة عن زوجها محمود المكلوم بفقده لأعز أصدقائه، صداقة كانت الكاميرا رفيقتهم فيها.
سماح التي فاجأت زوجها قبل سنتين بصورة معلقة في أحد شوارع غزة بمناسبة عيد ميلاده، بينما انتشرت الفكرة على شبكات التواصل، تقول: "إن ياسر هو صاحب الفكرة، بل هو صاحب الصورة والكلمات المكتوبة عليها أيضا، هو من علقها وهو صاحب كل الاقتراحات لاحقا التي زادت من أواصر المحبة بيني وبين محمود".
وتضيف سماح باكية في حوارها مع "الرسالة": "وقع الخبر كان صادما بالنسبة لنا، طوال ليلة السبت ونحن نبتهل إلى الله بأن يشفي ياسر ولم يكن يخطر في بالنا أنها ستكون الليلة الأخيرة وبأن جسده الطيب لم يحتمل، ونحن حتى اللحظة ما بين الصدمة والحقيقة، فمحمود خرج صارخا بين أوجاعه يحمل ذكريات صاحبه، حيث كان يرافقه في كل مرة يذهبان فيها للتصوير في خيام العودة على الحدود، ولكنه هذه المرة لم يكن معه، فرحل ياسر وحيدا".
وفي استرجاعها لذكرياتهم معه، تقول: "لم نكن مجرد زملاء، كنا عائلة واحدة تجمعنا السهرات الطويلة على بحر غزة صيفا، والمواقف التي تجمع بين العمل والصداقة، لم أجد في حياتي شخصاً معطاء بدون حدود مثله، لا يرفض لصاحبه طلب، روحه من عوالم أخرى، روحه تستحق الشهادة".
وتضيف سماح: "تأخرنا كثيراً، وحينما سألناها عن ماذا تأخرتم؟! قالت: "عن هدية كنا نود تقديمها له، وهي صورته مع زوجته وابنه، حيث كنا ننوي طباعتها كبوستر وتعليقها له في مكتبه كمفاجأة نعبر فيها عن حبنا وامتناننا له، ولكنه رحل قبل أن نفعل!".