الأثواب المطرزة والعتابا.. نموذج مصغر لأعراس العودة

الرسالة-ياسمين عنبر

بمجرد أن تصل خيام العودة التي نصبت على حدود قطاع غزة، تتراءى أمام ناظريك أثواب النساء الفلاحية المطرزة، وحين تدقق النظر تلحظ أن كل واحدة منهن ترتديه حسب قريتها ومدينتها التي هجر منها أجدادها.

"السرو، الغزال، الشجر، الأشكال الهندسية، الزهور، الطيور" بعض من الرسومات التي تراها على أثواب النساء، وبألوان مختلفة.

في خيمة قرية "اسدود" ترتدي الحاجة "أم هاشم طه" وحفيداتها الثوب الاسدودي، تقول لـ"الرسالة": "منذ أن كنا في قرانا قبل النكبة ونحن نعرف النساء من الزخارف الهندسية التي ترسم على أثوابهن"، وأخذت تحكي كيف تعلمت النسوة وأتقنت فن التطريز الفلاحي.

فالمرأة كانت تتعلم هذه الرسومات جيدًا وترثها من أمها وجدتها، وتبدأ بتعلم فن التطريز وقد انغرس في ذهنها ضرورة نقل رسومات قريتها على أثوابها، كما تقول "طه".

أمرٌ مهم تراه السبعينية "طه" أنه أثر في تطور الرسومات التقليدية للقرى والمدن وهو التزاوج بين أبنائها، وتضيف: "أصبحت النسوة مع انتقالهن مع أزواجهن إلى قرى أخرى، ينقلن إليها رسومات قريتهن الأصلية ويتعلمن نقوش أثواب القرى التي انتقلوا إليها".

تدرك الحاجة "طه" أن التراث الفلسطيني يشكل إنتاجًا حضاريًا عبر آلاف السنين، وهو تراكمات السنين وتعب الجدات والأمهات منذ أيام الكنعانيين، كما تدرك تمامًا أن ارتداءها للثوب الفلسطيني في مسيرات العودة يرسخ حقها في الأرض، والعودة أيضًا.

تتابع الاسدودية "أم هاشم" حديثها مع "الرسالة" بألم كبير حين علمت من ابنها أن (إسرائيل) سجلت أثوابًا فلسطينية باسمها في الموسوعات العالمية، وتكمل: "سرقوه بس حنظل نلبسه وحنرجع فيه عالديار ونثبت للعالم انه تراثنا".

قطع الحديث مع الحاجة "طه" اصطفاف شباب من قرى مختلفة قد تجمعوا للدبكة الشعبية على ألحان العتابا والميجنا فراحت تتابعهم والبسمة ما انفكت تفارقها.

الكتف بالكتف وقف سبعة شباب على مرأى الجنود الذين يبعدون عنهم أمتارًا قليلة، وهم يرتدون السروال الشعبي والكوفية على الأكتاف وأخرى يلفونها على رؤوسهم.

الطفلة "ملك الرنتيسي" التي ترتدي ثوبًا يبناويًا لفتت انتباه "مراسلة الرسالة" وهي ترتدي ثوبًا تمامًا كثوب جدتها التي تجلس على باب الخيمة، وعلى رأسها "منديل" على أطرفه ليرات ذهبية، تحكي بعد سؤالها: "ستي طرزت لي اياه عشان لما نرجع على يبنا أكون لبساه".

وعلى بعد خيميتين، تسكب المجدلاوية "أم أحمد المدهون" "السماقية" في أوانٍ نحاسية قديمة، أتت بها ليكون المشهد كله تراثيًا عتيقًا.

تحكي وهي تناول الشباب الأواني للخيم المجاورة: "السماقية أكلة تراثية فلسطينية مهما حاول الإسرائيليون سرقتها إلا أنها تبقى بكل طقوسها لنا، وهي كانت حاضرة في أفراح الفلسطينيين وأحزانهم قبل النكبة".

الباحث في التراث الفلسطيني النابلسي "حمزة أسامة" يدرك أن حضور روح التراث في هذه المسيرات هو شيء رمزي صورياً لكنه مرتبط جوهرياً بالشخصية الفلسطينية التي لا تزال تتمسك بوطنها وحقوقها ومن حق العودة.

كما يؤكد أن هناك رسائل قد تكون خفية وغير مكتوبة لكنها تصل بصرياً من خلال بعض المظاهر التي نقلتها وسائل الإعلام مثل الدبكة وبعض الأغاني التراثية والأثواب المطرزة وحمل بعض العجائز لجرار ماء فخارية ولباس بعض النساء البدويات، وحمل بعض الأشياء التي ترمز للعودة.

ويقول لـ"الرسالة": "هذه الصورة تقول إن الفلسطينيين بعد 70 عامًا على النكبة لايزالون فعلاً يستشعرون الوطن ويرون العودة قريبة ولذا جاؤوا ومعهم بعض أمتعتهم، جاءوا ومعهم تراثهم الذي لم يفارقهم طوال هذه السنوات".

رمزية التراث وحضوره يراه "أسامة" صفعة في وجه غولدا مائير التي راهنت يوماً (بأن الكبار سيموتون والصغار سينسون).

"هذه الصورة تقول لنا تماماً كيف ستكون ليالي وأيام العودة، حيث النسوة مرتديات ثيابهن المطرزة وأخريات يحمل جرار الماء وبعض أمتعتهن ومفاتيح بيوتهم التي لم تعد قائمة أصلاً، والرجال سيكونون كأنهم بأعراس" يقول.

كما يتيقن أنها فعلاً ستكون أعراس الحرية وسينشدون أهازيجهم وغناءهم وستعلو صيحاتهم على وقع أرجلهم أثناء الدبكة والدحية.

ويتابع حديثه قائلًا: "هناك شيء بصري مهم أيضاً وهو حضور صور بعض الشهداء، وأعلام فلسطين، تدرك وقتها أن هناك جدلًا حقيقيًا لمفهوم العودة عند هؤلاء مع قيمة التضحية والشهادة ومكانة الأبطال الذي ضحوا بحياتهم ليكونوا بمثابة جسر العودة".

ويختم: "الدبكة وليلة السهر" هي النموذج المصغر لأعراس العودة واحتفالات زوال الاحتلال التي ظهرت بشكل عفوي وارتجالي لكنها تعبر عن روح هؤلاء الشباب المفعمين بالأمل بالعودة".

 

البث المباشر