شكل استلام السلطة الفلسطينية معابر قطاع غزة بداية أكتوبر الماضي وفق اتفاق المصالحة بين حركتي فتح وحماس نقطة تحول في عملها، وتحديداً معبر كرم أبو سالم الذي يحظى بأهمية بالغة كونه الوحيد الذي يمد قطاع غزة بالبضائع والمواد التي يحتاجها بعد إغلاق باقي المعابر، وبالتالي فهو المصدر الوحيد تقريباً لمد القطاع بالإيرادات نتيجة الضرائب التي تتم جبايتها على بوابته.
وكان لافتاً أن المعبر هو الجهة الوحيدة التي تمسكت السلطة الفلسطينية بها ورفضت التخلي عنها كما باقي الوزارات، حيث لم تشمله أزمة التمكين التي تتذرع بها الحكومة لتولي أعمالها في القطاع، وبعد خمس شهور على استلام السلطة المعبر فإن هناك العديد من الإشكاليات ظهرت والتي كان لها تأثير كبير في تدهور الوضع الاقتصادي بغزة.
وتتمثل أبرز هذه الإشكاليات بغياب النظام الرقابي والإداري للمعبر والذي جرى العمل به وتطويره خلال السنوات الماضية وكان يساهم بشكل كبير في احداث التكاملية في عمل المعبر مع كافة الادارات العامة في وزارة الاقتصاد، وكذلك التكاملية مع الوزارات الأخرى ذات طبيعة العمل المشترك مثل (الزراعة، المالية، النقل والمواصلات، الأشغال، الصحة)، إلا أن هذا النسيج المتكامل سرعان ما تلاشى عقب تسليم المعابر وخاصة معبر كرم أبو سالم، حيث ظهرت العديد من المشاكل.
"الرسالة" ترصد أهم الأزمات والاشكاليات التي جرت عقب تسليم المعبر وكيف تعاملت السلطة الفلسطينية معه لتحقيق أعلى نسبة من الإيرادات الممكنة بغض النظر عن عملية ضبط الجودة والمنتجات الواردة للقطاع.
اتلاف شبه يومي
ومنذ تسلم السلطة للمعابر يجري بشكل شبه يومي اتلاف كميات كبيرة من البضائع نتيجة غياب الطواقم الفنية المختصة.
وزارة الاقتصاد أعدت دراسة ورصد حول وضع معبر كرم أبو سالم بعد تسليمه وأبرز الاخطار والاشكاليات التي جرت في عمله، وتوصلت لأبرز تلك التداعيات والمتمثلة بوقف التعامل بإذن الاستيراد والذي كان يعول عليه للمحافظة على حجم العرض على السلعة بأنواعها المختلفة وحماية المنتج الوطني.
كما انتشرت العلامات التجارية المزورة بسبب عدم وجود سيطرة على المعابر والتدقيق في السلع الواردة، وعودة الاحتكار للعديد من السلع نتيجة لعودة الوكالات التجارية، بالإضافة إلى عدم إرسال تقارير يومية (محاضر ضبط وتحفظ) للمنتوجات المستوردة من الخارج حيث لم يصل الإدارة العامة للصناعة أي محضر أو تقرير بهذا الخصوص، ما ساهم في عجز الوزارة عن متابعة جودة المنتوجات المستوردة وخاصة التي تشكل خطرا على حياة المواطن مثل المنتوجات التي لها علاقة باستخدام الغاز المنزلي والتمديدات الكهربائية.
الاقتصاد: غابت آليات الرقابة وانتشرت السوق السوداء في القطاع
وتبعه غياب متابعة المنتوجات التي تدخل في أعمال البنية التحتية وعملية الإعمار مثل الإسمنت والتمديدات الصحية ومياه الشرب وغير ذلك من الأصناف.
عبد القادر بنات مدير عام حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد بغزة أكد أن الأهداف الأساسية لوزارة الاقتصاد تتمثل بالمحافظة على الأمن الغذائي للمواطن الفلسطيني وحمايته وكذلك وضع السياسات الاقتصادية الكفيلة بتنمية القطاع الاقتصادي الفلسطيني والتي من أهمها حماية المنتج الوطني وتعزيز قدرته التنافسية من أجل الوصول إلى الأسواق العالمية.
وبين أن الوزارة سعت في رؤيتها إلى وضع مجموعة من السياسات الكفيلة بتنمية القطاع الاقتصادي والتي من أهمها دعم المنتج الوطني عبر سياسة الاحلال محل الواردات وضبط الجودة وتشجيع المشاريع الصغيرة والريادية، إلى جانب تعزيز سياسة السوق الحر عبر تطبيق المنافسة الكاملة وتعزيز كفاءة عمل المعابر للحفاظ على الأمن والسلامة الغذائية.
ولفت بنات إلى أن أهم الإشكاليات التي جرت عقب تسلم المعابر هو تراجع النشاط الاقتصادي نتيجة لتحويل حصيلة الجمارك والتعلية والرسوم إلى خزينة السلطة الفلسطينية وعدم ضخها في السوق المحلي (40% من إيرادات وزارة المالية، 70% من إيرادات وزارة الاقتصاد)، ما أدى إلى عدم القدرة على دفع رواتب الموظفين والبالغ عددهم نحو 40 ألف موظف يعول عليهم في تحريك جزء من عجلة النشاط الاقتصادي.
وأوضح أن طواقم حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد وغيرها من الوزارات باتت تتحمل مشقة كبيرة في التفتيش على البضائع في الأسواق نتيجة لعدم وجودهم على المعابر، وبالتالي صعوبة متابعة المخالفين والقضاء على السوق السوداء، مشيراً إلى غياب آلية الربط بين المعابر والوزارة، ما انعكس سلباً على أداء الوزارة بإدارتها المختلفة.
تعذر القدرة على الحصول على عينات الفحص المخبري للسلع الواردة خاصة الغذائية وبالتالي عجز طواقم عن حماية المستهلك على متابعة عملها داخل الأسواق لغياب آلية التحكم في البضائع ومن المعابر، وبحسب بنات، فقد تراجعت عينات الفحص من 207 في أغسطس 2017 قبل تسليم المعابر إلى 52 عينة في نهاية 2017 علماً بأن 52 عينة تم جمعها من الأسواق وبطريقة شاقة كبديل عن المعابر.
ضرائب إضافية
وقد ساهمت الإدارة الحالية للمعابر بفقدان القدرة على مطابقة البضائع الواردة إلى قطاع غزة مع المواصفات الفلسطينية، وغياب القدرة على التنظيم والرقابة على أسعار السلع والتدخل لصالح المستهلك أو لصالح المنتج وفق المفهوم الاقتصادي وصعوبة تصويب بطاقة البيان للسلع المستوردة، وبالتالي عدم القدرة على معرفة حجم الواردات إلى قطاع غزة وأنواعها ومدى منافستها للمنتج الوطني وانعدام القدرة على تحديد الاحتياجات المستقبلية في مجال الأمن الغذائي.
كما كان سوق البترول ومشتقاته من أكثر القطاعات تضررا نتيجة صعوبة تنظيمه ومتابعة عمله.
من جانبه، أكد الخبير الاقتصادي أسامة نوفل أن العديد من السلع والخدمات ارتفعت أسعارها كما أمعن موظفو وزارة المالية في حكومة التوافق العاملين على المعابر في زيادة التعلية الجمركية على البضائع الواردة إلى قطاع غزة.
وأضاف أنه جرى زيادة أسعار السولار والذي كان متنفساً مهماً لدى غالبية أفراد المجتمع وخاصة السائقين وأصحاب المخابز والتجار وأصحاب المصانع في ظل الانقطاع المتواصل للكهرباء، حيث أظهرت المؤشرات الاقتصادية التراكمية تراجعاً ملموساً سواء على صعيد حركة استيراد البضائع أو حركة البيع والشراء.
خبير اقتصادي: موظفو المالية على المعبر أمعنوا في زيادة التعلية الجمركية
وأوضح نوفل أن حكومة التوافق أصدرت قرارً بمنع الازدواج الضريبي في قطاع غزة بحيث تم إلغاء أذونات الاستيراد على السلع، والجمارك الإضافية على السيارات، وكان من المتوقع أن يؤثر ذلك إيجابياً على النشاط الاقتصادي، ولكن المتابع للأوضاع الاقتصادية يجد تراجعاً خطيراً حيث استطاعت حكومة التوافق ربط التجار مباشرة مع وزارة المالية في رام الله، وبالتالي إعادة تصويب البيان الجمركي للمستودين ومن ثم زيادة الايرادات المتعلقة بالقيمة المضافة والجمارك مباشرة قبل وصول البضائع إلى قطاع غزة، علما بأنهم يتقاضون مبالغ اضافية على المعبر تسمى التعلية الجمركية.
ولفت نوفل إلى أن السلطة عملت على زيادة الايرادات من خلال طلب تقدمت به إلى الاحتلال لزيادة التعرفة الجمركية على مجموعة من السلع الأساسية الواردة إلى الأراضي الفلسطينية وهى الملابس من (6-15%) ، الأثاث من (12-20%) ، الأحذية من (12-27%) ، منتجات الألمنيوم من (8-16%)، وقد وافق الاحتلال على ذلك وفق اتفاقية باريس والتي تسمح للسلطة بزيادة التعرفة الجمركية وليس بتخفيضها، وبدأ سريان هذا القرار في 14/1/2018م ، حيث من المتوقع ارتفاع أسعار تلك السلع في قطاع غزة نتيجة لتراجع الصناعات المحلية بسبب الاغلاق وارتفاع التكاليف الخاصة بالكهرباء.
كما أوضح ان السلطة قامت بحجز التعلية الجمركية التي كانت تدفع على المعبر التجاري وتوريدها إلى الضفة الغربية وقيمها 5 ملايين دولار شهرياً، وقال نوفل " إن أسباب انخفاض الأسعار في قطاع غزة حالياً يعود إلى تراجع القدرة الشرائية للمواطنين، وحالة المخزون المرتفع في القطاع بحيث يتعرض للتلف لأن أغلبه سلع استهلاكيه غير معمرة، كما أن أغلب التجار يقومون ببيع منتجاتهم بأقل من التكاليف خوفاً من تعرضهم للحبس نتيجة للديون المفروضة عليهم".
ونوه الخبير الاقتصادي إلى أن الاحصائيات بينت أن عام 2017م شهد أعلى أرقام في أوامر الحبس على ذمم مالية بحيث بلغ نحو 100 ألف أمر حبس، وهو مؤشر خطير جداً".
وأضاف بأنه جرى ربط التجار من قطاع غزة مباشرة مع وزارة المالية في الضفة الغربية بحيث يتم عمل البيان الجمركي ويتم الدفع مباشرة عبر المخلص التجاري كافة الضرائب غير المباشرة إلى خزينة السلطة في الضفة، كما أغرق السوق بالمنتجات الاسرائيلية ما أدى لضرر كبير للمنتج الوطني.
ضرب السوق المحلي
ومن أخطر الأزمات التي ظهرت عقب تسلم السلطة للمعبر هو إفشال سياسة إحلال الواردات ودعم المنتج المحلي التي تم اتباعها خلال الفترة الماضية، وظهر ذلك بوضوح من خلال إغراق السوق المحلي بالمنتجات الزراعية والصناعية والتي يوجد لها بديل محلي مثل المواد الغذائية، والملابس والصناعات البلاستيكية والخشبية وخاصة الاسرائيلية وبالأخص منتجات المستوطنات.
كما أن عدم التواصل مع إدارة المعابر يؤدي إلى عدم وجود توازن في السوق المحلي بين المنتوجات المستوردة وتلك المصنفة محلياً، الأمر الذي ينعكس سلباً على المصانع الوطنية والتي تفقد حصتها السوقية مما يؤدي إلى توقف العملية الإنتاجية في المصانع بما يفضي إلى زيادة نسبة البطالة في المجتمع الفلسطيني.
وبحسب المختص الاقتصادي نهاد نشوان، فان فاتورة المقاصة قبل المصالحة لم تكن تسلم بالكامل للسلطة نتيجة فقدانها البيانات الكاملة، مقدراً حجم الفاقد بحوالي 20% من إيرادات المقاصة نتيجة عدم تسلم فواتير بيانات من غزة، مستدركاً بالقول: "بعد تسلم المعبر أصبحت السلطة تجبي المقاصة بنسبة 100%".
وأوضح أن السلطة استفادت من الجباية على المعبر ومن شق آخر وهو التعلية الجمركية، ومن حرصها على رفع التعلية قامت السلطة بتركيب برنامج دولي بداية أكتوبر على المعبر بحيث جرى تحصيل المقاصة بشكل كلي وتعلية على كل البضائع التي تدخل.
نشوان: غزة حُرمت 60 مليون شيكل كانت تضخ في السوق شهرياً
وشدد على أن التعلية التي تدخل لا تخضع لموظفي السلطة على المعبر وانما تخضع لمهمة البرنامج، حيث يتم إضافة كود السلعة وهو ينتج سعر السلعة كم من المفترض ان يكون وبالتالي يتم استخراج الفرق وليس تقديريا كما كان معمولا به سابقا، وهو أمر ضاعف العبء على كاهل التجار.
وقال نشوان "النظام الحالي على المعبر يمنع ادخال أي بضاعة دون دفع قيمة التعلية كاملة وفق برنامج "أسكودا" وهو برنامج أوجدته منظمة التجارة العالمية يربط معبر كرم أبو سالم بميناء سدود وبكل الموانئ العالمية".
وبين أن تسليم المعبر ضاعف من أزمة الوضع الاقتصادي بغزة ومن ازمة الوزارات خاصة ان غزة حرمت من إيرادات تقدر بما يعادل 60 مليون شيكل شهريا وافتقدها السوق في غزة، وباتت تضخ في رام الله، إضافة الي فقدان الجباية دون مقابل، "فلم تهتم السلطة باي شق له علاقة بالوضع الإنساني، وإنما بالقطاعات التي تضخ سيولة على خزينتها، وهي المعبر، ولذا لم نر التمكين إلا على كرم أبو سالم".
ودعا المختص الاقتصادي الى ضرورة عمل خطوة هامة لإعادة تحصيل الجباية على المعبر من خلال لجنة انقاذ وطني او أي جهة أخرى يجري التوافق عليها مع الفصائل، مضيفاً أنه "بمنطق رئيس السلطة اما ان نتسلم كل شيء او لا، فالأفضل ان يعيد المعبر للجهة العاملة بغزة"، وفق قوله.
ووفق دراسة وزارة الاقتصاد، فقد جرى الإضرار بحقوق الملكية للعلامات التجارية المسجلة بالوزارة من خلال عدم القدرة على حماية العلامات على المعابر، الأمر الذي يضر بمصلحة التجار وكذلك حمايتها من التزييف والتقليد الأمر الذي يضر بالمواطن ويجعله ضحية الغش والتدليس والخداع.
كما أن التأثير السلبي طال القطاع الصناعي والزراعي لا سيما في مجال الصناعات القائمة على الزراعة مثل صناعة الألبان نظراً لدخول كميات كبيرة من الحليب المجفف والذي يشكل بديلا عن الحليب الطازج المنتج من الأبقار في المزارع المحلية، بحسب الدراسة.
ووفق الدراسة فقد جرت زيادة في نسبة التهرب الضريبي لدى فئة التجار والمستوردين نظراً لعدم تواجد الطواقم الفنية التابعة لوزارة المالية على المعابر وأثر ذلك في نقص الإيرادات.
دراسة: رغم وجود بديل محلي تم إغراق السوق بمنتجات الاحتلال وخاصة بضائع المستوطنات
وشهدت أسواق غزة خلال الربع الأخير من عام 2017 انخفاضاً في حجم مبيعات كافة الأنشطة الاقتصادية في ظل حالة من الركود التجاري لم يسبق لها مثيل، ولم تمر على قطاع غزة منذ عقود وذلك نتيجة لضعف القدرة الشرائية لدى المواطنين في ظل استمرار الحصار الإسرائيلي وأزمة الكهرباء الطاحنة واستمرار الخصم على رواتب موظفي السلطة وعدم تلقي موظفي الحكومة السابقة في غزة لأي دفعات من رواتبهم خلال الشهرين الأخيرين.
ويعزو الخبراء حملات خفض أسعار البضائع في سوق القطاع لعرض أصحاب المحال التجارية لمخزون هائل من البضائع والمنتجات المختلفة المتبقية في مخازنهم من الموسم السابق ما يعني تصفية المخزون والتخلص من هذه السلع في ظل حاجة التجار الملحة للسيولة النقدية، علما بأن أسعارها سترتفع عند الاستيراد الجديد بسبب زيادة التعرفة الجمركية على البضائع الواردة من قبل السلطة الفلسطينية، ما يعني زيادة الخسائر التي تكبدها القطاع الخاص والتي تزيد من الازمة الاقتصادية.
وقد أكدت الدراسة أن الحلول التي يمكنها معالجة الأزمة الاقتصادية القائمة تتضمن الوقف الفوري للعقوبات على قطاع غزة، ورفع الحصار وفتح البوابة الجنوبية لحركة الافراد والبضائع، إلى جانب اعتبار غزة منطقة منكوبة ينبغي إعفاؤها من الضرائب والرسوم، ووقف إغراق قطاع غزة بالمنتجات الاسرائيلية وحماية المنتج الوطني، بالإضافة إلى التسهيل على المواطنين من قبل وزارة الداخلية وعدم إصدار أوامر حبس للمواطنين على ذمم مالية، وتأجيل دفع أقساط الديون للبنوك لفترة محدودة.
كما يطرح المراقبون ضرورة إيجاد طريقة لاستثمار إيرادات المعبر وإعادة ضخها في السوق الغزي لمحاولة إنعاش الاقتصاد الذي وصل مراحل من التدهور غير مسبوقة سواء عن طريق لجنة انقاذ وطني أو عبر إدارة مشتركة من الفصائل.