قائمة الموقع

مكتوب: أمام ثلاجات الموتى.. لهفةُ أمهات وقهرُ رجال

2018-05-22T08:29:45+03:00
أمام ثلاجات الموتى.. لهفةُ أمهات وقهرُ رجال
الرسالة نت - ياسمين عنبر

جاؤوا مسرعين به على أكتافهم، حرقة أصدقائه كانت جلية من دموعهم الحرى على وجوههم، سألتُ آخر من يحمل الجثمان، "ما اسم هذا الشهيد؟"، قال لي باكيًا: "فضل حبشي".

 

أدخلوه كي يغسلوا الدم الذي ملأ وجهه، دخل معه اثنان ممن كان يحملونه، بينما استند البقية على الجدار وغطوا وجوههم وبكوا بصوت عالٍ.

 

امرأة خمسينية جاءت مسرعة كادت أن تقع على المدرجات التي ستوصلها إلى مكان انتظار خروج جثمان الشهيد الذي أدخلوه للتو، يداها ترتجف، وعيناها تحملان حيرة العالم أجمع!

كنت أول من استقبل دموعها، فنظرت سريعًا إلى الأجندة التي أحملها ولاحظت أني أدون، ففطنت أني اكتب أسماء الشهداء.

ثمة حوار دار بيني وبينها:

- طمنيني يا خالتي الله يطمن بالك، اسم ابني مع الشهدا؟؟ اسم ابني فضل الحبشي.. احكيلي أي اشي يا خالتي إلا انه ابني استشهد وراح!

كان الصمت إجابتي، فكيف أخبرها أن قطعة من روحها ارتفعت إلى السماء للأبد، وكيف لي أن أنطق "نعم"، وكيف لي أن أقول: "لا"!

شاب يقربها رآها من بعيد فاخترق الحشود ووصل إليها، نكزني أن "لا تخبريها"، وبدأ بإقناعها أن تعود إلى منزلها حتى التأكد من الخبر.

"أنا قلبي بجعني.. قلبي بحرقني.. قلبي حاسسني إنه فضل راح"، قالت الأم للشاب، محاولة أن تلمح أي دليل من الأجندة التي أحملها يخبرها هل ابنها في ثلاجات الموتى أم لا!

لم تمر ثلاث دقائق بعد اقتناع الأم أن ترجع إلى بيتها، حتى خرج الشباب من الباب الآخر الذي أدخلوا فيه "حبشي"، فبدت حمرة وجوههم أكثر فقاعة، وغضبهم أكبر حين كانوا يرددون: "لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله.. حسبي الله ونعم الوكيل".

بعد ابتعاد الشباب بجثمان "حبشي" عن ثلاجات الموتى، كان الصمت حاضرًا اخترقته صرخة مدوية من شاب عشريني، كان يستند إلى حائط بعد خروجه من وداع أخيه: "طاهر راح.. هي دم طاهر لسا على ايديا".

استند على الحائط.. بكى، ثم عاد إلى الثلاجة يودعه مرة ثانية، ورجع ارتمى في حضن أحد أصدقاء أخيه الشهيد، ولا انتهاء من هذا المشهد هناك!

"شاب زي القمر.. زي الورد راح"، صرخ بها أحد المتواجدين أمام ثلاجات الموتى، حين أتوا بالشهيد محمد مقداد مضرجًا بدمائه، بينما تمتمت إحدى النسوة: "يا ويل قلب إمك عليك".

طفل امتلأت عيونه دموعًا، وكانت ملابسه ملأى بالدم، يستند على حائط يحتضن حذاء تغبر بتراب الأرض.

 لم يكن مستغربًا للحاضرين حوله، فالنعل هذا برائحته. بالدم الذي يملؤه.. بالتراب العالق فيه.. هو أغلى ما يملك من ذكرى لوالده الشهيد بعد اليوم!

أمام الثلاجات.. وضعوا "سعيد أبو الخير" على الأرض ليودعه أبوه، ليحتضنه صارخًا: "هاد ابني يا ناس.. سعيد قوم يابا خلينا نجهز لرمضان.. قوم يابا أنا ومين بدي أقضي كل رمضان. هادا ابني يا عالم".

هناك. أمام ثلاجات الموتى، تبدو لهفة الأمهات أقوى، بينما قهر الرجال يتجلى واضحًا حين يحاول رجل أن يواسي أب الشهيد الباكي فيعجز أمام الفقد عن النبس ببنت شفة، فيحتضنه ويبكيا سويًا.

يوم مليونية العودة في الرابع عشر من مايو. لم يكن مشهد حمل الشهيد على الأكتاف وإدخاله إلى الثلاجات وإخراجه منها مشهدًا يفقد هيبته لكثرة عدد الشهداء.

كان لكل شهيد هيبة وجلالة أكثر من الذي يسبقه، كان لقهر الرجال صور كثيرة، لكل لهفة أم حزن لا يشبه سابقتها.

أمام ثلاجات الموتى.. تدرك حين رؤيتك للشهداء أن "الموت يتفنن في اختيار الوجوه".

اخبار ذات صلة