من جديد تحاول مصر فتح ملف المصالحة الفلسطينية الداخلية بغض النظر عن الأسباب والأهداف التي تسعى مصر من خلالها تحقيق بعض المصالح الخاصة بها وهذا حق لمن يريد لعب السياسة، لأن القاعدة تقول السياسة مصالح وأينما وجدت المصلحة تسير من خلفها السياسة؛ ولكن علمتنا الحكم أن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فكما لمصر مصلحة من خلال سعيها لتحقيق مصالحة فلسطينية فهناك أيضا مصلحة فلسطينية من المصالحة، فإذا توافقت المصلحة المصرية مع الفلسطينية فالمصالحة قد تحدث، ولكن إذا تعارضت المصلحتان فلن يكون هناك توافق، وهذا يدعونا للقول أن مصالح مصر مقدرة ومن حقها تحقيقها بالطريقة التي تراها مناسبة؛ ولكن على مصر الحذر من أن يكون تحقيق مصالحها على حساب مصالح الفلسطينيين وفق المثل القائل (أنا ومن بعدي الطوفان).
سنفترض حسن النوايا المصرية، وأن مصر ترى أن وحدة الصف الفلسطيني مسألة غاية بالأهمية، وهذا ما يدركه كل عاقل، وحتى يواجه الفلسطينيون التحديات لابد من أن يوحدوا صفهم وسياستهم وأن يبنوا استراتيجيتهم في المواجهة على الوحدة وتحمل المسئولية المشتركة، فالقضية التي تسعى الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني وبعض الأطراف الإقليمية المتساوقة معهما إلى تصفيتها تحتاج لتقوية هذا التحدي الكبير والخطير إلى وحدة صف ووحدة هدف ووحدة خطاب وتوافق على السياسة العامة.
والسؤال مشروع وموجه للجانب المصري أولا وهو هل لمست مصر تغييرا في عقلية محمود عباس وأن حالة من الوعي للمخاطر آخذة بالتشكل، وأن أدراكا لدى السلطة بأن ما كانت تسعى إليه من خلال إفشال المصالحة رغم ما قدمته حركة حماس من أجل إتمام الوحدة؟ وهل مفهوم المصالحة لدى محمود عباس تغير وبات يدرك أن المصالحة تعني الشراكة السياسية، تعني تحمل المسئولية المشتركة بين الكل الفلسطيني مهما بلغ حجم هذه الأجزاء الفلسطينية والتي لو اجتمعت على صعيد واحد يمكن لها تحقيق ما تريد؟ وهل بلغت السلطة حالة من الوعي أوصلتها إلى أن سياسة الهيمنة والاقصاء لم تعد تجدي نفعا.
وهل أدركت مصر أن حركة حماس مازالت تؤمن أن المصالحة هي الخطوة الأولى نحو العودة ومواجهة الاحتلال ومشاريع التصفية وتعزيز صمود الشعب الفلسطيني بعيدا عن الهيمنة والاستحواذ، وأن هذا الوطن للجميع وعلى الجميع أن يخضع لما يريده الوطن ويريده الشعب؟
إن لم تحصل مصر على الأجوبة النهائية لكل ما طرحنا أعتقد أننا سنصل إلى طريق وصلنا إليه في المرات السابقة، وأن ما يجري في القاهرة من جديد سيكون مجرد جعجعة بلا طحين وضياعا للجهد والوقت وتلهية للشعب وعودة للإحباط والخذلان.
نعم، كلا الطرفين يؤمن بقدرة مصر على إحداث اختراق في المواقف؛ ولكن هل مصر بالفعل تريد الوصول إلى مصالحة حقيقية قائمة على تحقيق المصالح الفلسطينية، وأن الخوف لدى مصر من بقاء الانقسام سيضعف الموقف المصري لو كانت تريد مصر التصدي لصفقة القرن وللمشروع الأمريكي الصهيوني من تصفية القضية الفلسطينية، هل مصر تدرك أن صفقة القرن لو نفذت كما يريدها ترامب والكيان الصهيوني لن تكون فقط على حساب الشعب الفلسطيني وحده بل سيتعدى خطرها فلسطين وسيصيب المنطقة العربية بأكملها ولن تنجو مصر من مخاطرها وكذلك دول الإقليم، ولذلك تريد مصر أن تعتمد في رفضها لصفقة القرن على الموقف الفلسطيني الموحد الرافض لهذه الصفقة وتنطلق من هذه الفرضية نحو الحديث بشكل قوي أمام الإدارة الأمريكية كونها مقتنعة أن الحل دون موافقة فلسطينية لن يكون.
خطورة صفقة القرن لن تكون على الفلسطينيين وحدهم وإن كان نصيبهم أكبر من أي طرف عربي، فالكل سيدفع ثمنا كبيرا لو سمح لهذه الصفقة أن تتم وأن ترى النور، وعلى الجميع الحذر والإدراك في نفس الوقت أن أي حل دون رضا الفلسطينيين يتجاوز حقوقهم المشروعة محكوم عليه بالفشل، ولكن على الفلسطينيين أن يدركوا قبل غيرهم أن الوحدة وإنهاء الانقسام خيار ضروري لا خيار غيره، ولذلك على الجميع أن يعيد حساباته بما يعزز الوحدة وإنهاء الانقسام والعمل على تعزيز مبدأ الشراكة وتحمل المسئولية فالخطر داهم ولن يترك أحدا إذا بقينا على حالة الانقسام.