تقول أمي أني ولدت ذات يوم ماطر، وحبوت ذات خريف، وتشبثت بأطراف ثوبها في كل الفصول، بينما أذكر جيدا أنني ركضت خلفها وهي مغادرة منزل أبي بلا عودة ذات حرب، مخلفة ورائي إخوتي وأخواتي وصراخ أبي الذي لا ينقطع.
تؤكد أمي أنني كنت طفلة طبيعية في كل مراحل نموي، فقد كنت ألعب مع أقراني وأركض أركض دون تعب، وأتكلم بطلاقة، كل ذلك قبل أن ينفجر إلى جواري ذلك الصاروخ اللعين.
فبعد تلك الحادثة بقيت فترة طويلة فاقدة للسمع والنطق لكني كنت أرى الدموع دوما في عيني أمي وهي تجلس إلى جواري على ذلك الكرسي المعدني المتهالك في مستشفى المدينة. وبعد أن استعدت السمع والنطق سمعت الطبيب يقول لأمي أن نوبة الصرع التي تنتابني من فترة لأخرى، هي نتيجة للصدمة التي أصابتني إثر انفجار الصاروخ بالقرب مني حيث تسببت الصدمة بزيادة في كهرباء المخ لدي وهذا ينتج عنه الصرع.
وأوصى الطبيب أمي أن تحرص على أن أعيش حياة هادئة بعيدة عن التوترات التي قد تزيد من عدد نوبات الصرع التي تنتابني، فجنبتني أمي الذهاب لرياض الأطفال، فلم أستطع الإنشاد ولا التهجئة كأبناء أخوالي لذلك صممت أمي أن ألتحق بالمدرسة وهكذا انتقلت من صف لآخر دون أن أميز الحروف، فقد كانت المدرسة ترفعني من صف لصف أعلى لأنني "حالة خاصة". وهكذا أصبحت في الصف السابع الآن ولا أجيد سوى مهارة واحدة وهي نقل الحروف من على السبورة إلى دفتري، دون أن أميز سوى حروف اسمي، فقد دربتني أمي على كتابة اسمي جيدا، حتى لا تختلط أوراق اختباراتي بأوراق زميلاتي اللاتي يتعمدن ترك خانة الاسم فارغة.
لكم تمنيت أن أترك خانة اسمي فارغة فقد كان يؤلمني رسوبي في كل الامتحانات كثيرا، لكنني كنت أجيد كتابة اسمي وأشعر بسعادة غامرة وأنا أخطه على أوراق الامتحانات.
تتوتر أمي وتبكي بحرقة كلما انتابتني نوبة صرع أغيب فيها عن الوعي لدقائق، ثم أعود لأظل واهنة لفترة تعتني أمي بي خلالها وتدللني وتقبلني. يحزنني كثيرا حزن أمي ودمعها لكنني أطمئن وأسعد عندما تهمس باسمي في صلاتها تدعو لي بالشفاء.
"براءة"، هذا هو اسمي وأخبرتني المعلمة ذات يوم أنه يعني الطهارة والنزاهة والتخلص من العيب وأخبرتني أن لكل إنسان نصيب من اسمه، كانت هذه المعلومة تسعدني إلا أنني عندما أنفرد بنفسي وأتذكر أنني أدعي أنني مصروعة كلما زرت أبي، أشعر بأنني أخون اسمي الذي اختارته أمي لي، لكنني لا أريد مفارقة أمي، حتى لو بقيت أدعي الصرع كل زيارة لأبي مدى الحياة.