قائد الطوفان قائد الطوفان

مكتوب: "رصاصة ووردة" مطلع رواية الشهيد "أبو خاطر" وختامها

صورة
صورة

غزة- ياسمين عنبر 

لم يكن في الشهيد "شعبان أبو خاطر" أيٌ من البقية الدنيوية التي من الممكن أن تمنعه إخبار زوجه حين تقدم لخطبتها بأن حق الوطن مقدمٌ لديه وفوق كل اعتبار.

فحين قال مجاهد فلسطيني: "البقية الدنيوية فينا هي التي تمنعنا أن نخبر زوجاتنا وهن في بيوت آبائهن أن الوطن فوق كل شيء، أن حياتنا معهم قصيرة، والمصالح اليومية لدعوتنا مقدمة على حقهن"، كان قد استثنى منها "شعبان" استثناء تامًا.

لقد لخص لها سنواتٍ من الرباط والانتظار والفقد في رصاصةٍ ووردة فأخبرها أن الوردة ستكون بداية حبهما والرصاصة ستنهيها لأجل وطن تجوب الكرامة أرجاءه.

كان "شعبان" يريد لأبنائه أن يعيشوا فيه بعزة، لا أن يصبحوا مجرد روايةٍ تطويها دفتا قطاع غزة، السجن الأغرب في العالم.

كان لخانيونس هذه المرة كمَّا كبيرًا من الوجع كما التضحيات منذ بدء مسيرات العودة، حيث ودعت أكثر من خمسة عشر شهيدًا، تلحظ ذلك من خلال صور الشهداء المعلقة على جدرانها وعبارات الرثاء المخطوطة في شوارعها.

أين بيت الشهيد "شعبان أبو خاطر"، كان سؤالنا لطفل في العاشرة من عمره، يرتكز على حائط فمشى يدلنا على البيت، في منطقة الفراحين في مدينة خانيونس.

ثم سألناه "هل أنت جريح بمسيرات العودة"، بعد أن أمسك بعكازين وضعا جانبه لم ننتبه إليهما من قبل، فابتسم وأجاب "نعم"، وأكمل دون أن نحدثه شيئًا: "أنا صح جريح ورجلي بتجعني كتير بس ضليت أروح عالحدود عشان القدس وبلاد سيدي".

ذاك الطفل كان "أسامة أبو مغنم"، لم يرَ يومًا قرية جدته التي رآها جده فيها قبل النكبة فكان فرحهما على أحد سهولها، ولم يشعر بهواء عكا ولا جمال حيفا.

شعر فقط أن أزقة المخيم لا تتسع لأحلامه.. تمامًا كشعوره بوجع من وقف في طابور الكوبونات.. ذاك الحزن أنبت في قلبه "ثورة" لن تنطفئ إلا بالعودة.

بيتٌ سقفه من صفيح كان مهبط الأحلام الجميلة لـ"صفاء و شعبان"، عاشا فيه سويًا متقاسمين حره صيفًا وزمهريره شتاء، وضيقه طوال العام.

قالت لنا إن "شعبان" قد وعدها أن يوسعه بقدر استطاعته بمجرد حصوله على فرصة عمل، "راح شعبان وراحت وعوده كلها.. راح وتركني لصعوبات الدنيا لحالي" تحكي صفاء باكية.

هي صفاء أبو خاطر، تلك الفلسطينية التي وجدت في حبها لمرابط على الثغور سبيلًا للعيش الهنيء، فتوافق القدر مع أمنياتها حين تقدم "شعبان" لخطبتها.

"أحب "صفاء" كثيرًا، لكنه أحب الوطن أكثر" هكذا همست إحدى النسوة اللاتي التففن حولها يواسينها، حين قالت عن هديته لها قبل خطبتهما بأيام.

حيث كان يحمل بيده مظروفًا قد خط فيه رسالة "أتقبلينني زوجًا مرابطًا على ثغور الوطن؟"، وفي المظروف كانت وردة ورصاصة.

حين التقت "الرسالة" "صفاء" أخبرتها أن رواية حياتها ليست كما نسجها حبيب قلبها "شعبان"، بل كانت "الوردة والرصاصة" هي النهاية ولا شيء آخر.. وردة ذابلة ورصاصة استقرت في قلبها فأماتت الحياة فيه، فهي تؤمن أن "الرصاصة لا تصيب في غزة قلبًا واحدًا".

الخوف الذي تغلغل إلى قلب "صفاء" لم يكن بالعادي كما قالت لـ"الرسالة"، ما جعلها تعاود الاتصال بـ"شعبان" رغم أنها قد حادثته قبلها بربع ساعة فقط.

"لم يرد علي شعبان"، قالت هذه العبارة وانهمرت باكية، قبل أن تكمل: "لما سمعت صوت حد تاني النار اشتعلت بقلبي وعرفت انه استشهد".

كانت "أبو خاطر" قد هربت من وسواسها وهواجسها إلى مواقع التواصل الاجتماعي فقرأت خبرًا مفاده: "ارتقاء شهيدين من خانيونس بعد حدوث انفجار ناتج عن قصف إسرائيلي شرق خانيونس"، لتتمتم: "ربنا يكون مع أحبابهم".

بكت الزوجة العشرينية كثيرًا وبعد خروجنا نادت علينا لتخبرنا أن "شعبان" كان قد جهز لها مفاجأة بعيد ميلادها بعد أيام قليلة من استشهاده، لكن قناص الاحتلال هدم كل أحلامها، ثم احتضنت طفلها "بكر" بعد أن قطع حديثها بقوله "بابا بابا".

البث المباشر