أغلقت الطريق المؤدية إلى مركز المسحال الثقافي، الذي دمرته طائرات الاحتلال بأكثر من عشرة صواريخ، بعد أن ملأتها حجارة الردم، وأصبحت أشبه بشاهد قبر عملاق، دفن أسفله مئات من القلوب المقتولة، والذكريات، وخلفت منظر ركام مرعب وحجارة متناثرة تحمل كل منها قصة نجاح أو فرح.
انها مؤسسة سعيد المسحال للثقافة والعلوم وتُعرف باسم مركز المسحال الثقافي، لم تكن يوما ثكنة عسكرية، ولم تشارك في أي حرب.
على قارعة السلام والفن بنيت عام 1996 بمساندة بتمويل من رَجل الأعمال سعيد المسحال، الذي افتتحها يوم 14 يناير 2004، وأعلنها كمؤسسة ثقافية تحوي مسرحا وقاعة مؤتمرات ومكتبة إلكترونية وتقليدية ومركزا للدراسات والأبحاث وقاعات معارض للفنون التشكيلية ومختبرات حاسوب. وبعدها بسنوات شكلت حاضنة أيضا لمكاتب الجالية المصرية والمركز الثقافي المصري، فلماذا اذن تقصف، ولماذا تحارب (إسرائيل) بوحشيتها كل أشكال الجمال في غزة لتقلب المشهد إلى كتلة من الركام؟!
كان ذلك في آخر نهار الخميس يوم التاسع من أغسطس، في حي آمن مستتب، تغرب فيه الشمس من فوق نافذة المسحال يوميا قبل أن تتخذ لها مكانا بين أمواج البحر.
هذا الحي القريب من الشاطئ، حيث اكتظاظ السكان في تلك المنطقة كانوا شهودا على بناء مركز المسحال الثقافي قبل عشر سنوات، جارا لطيفا لهم، يستقبل زوارا من كل أنحاء القطاع، لإحياء أحلامهم الثقافية فيه، وورش عملهم، ودوراتهم التدريبية، ولوحاتهم المرسومة بإتقان الوجع.
من هنا على درجاته الثلاثة أعلن كثيرون عن مشاريعهم الثقافية، وصورت الكاميرات احتفالات الأعياد والمناسبات الوطنية، ودورات تدريبية في الموسيقى والدبكة، ونجاحات لكتاب وجدوا فيه مكانا واسعا لأحلامهم، وحفلات الميجنا لفرقتي العنقاء ودواوين، التي يركض إليها أطفالي مطالبين بحقهم في الحضور.
ولكن ما الذي حدث، لم يكن في حسبان أي من جيران المسحال أن يقصف هذا المكان يوما، بدأت التجمعات في آخر النهار، حينما عرف السكان بأن المسحال مهدد بالقصف، التفوا حوله، متجمهرين مصرين على الوقوف في دائرة الموت.
في اللحظات الأولى أطلق الاحتلال صواريخ يسميها من فرط المهزلة "بالتحذيرية"، هذا ليبعد المتجمهرين ما أمكن عن مكان القصف، ولعل المضحك بأن تتصور كيف يحذرك عدوك من خطورة الاقتراب أثناء قصف صاروخ F16 من خلال اطلاقه لصاروخ آخر أكثر تهذيبا من صواريخ F16.
ثمانية صواريخ " تحذيرية" أطلق آخرها على رصيف تحت أرجل المواطنين، وسبقه واحد على الشجرة الباسقة في المنتصف، فانقسمت نصفين وكانت أول الضحايا الممددة على الطريق.
لم يخرج أي منا نحن جيران المسحال من بيته، رغم الصوت الذي روع الأطفال، ورغم صرخاتهم جلسنا نعد صواريخ طائرات الاحتلال، الذي عمد الى مهاتفة الجيران باللحظة الأخيرة أن اخرجوا من بيوتكم.
زحفا على اقدام الوجع وعيوننا مسلطة على مبنى المسحال الذي كان معلما يدل الأصدقاء على مكان سكنانا، ووسما أخبر السائقين من خلاله إلى مكان نزولي.
ابنتي ترجوني أن آخذها إلى مكان آمن، وتسألني عن سبب قصف المسحال، ثم هل هناك أحد من أساتذة دروس الدبكة هناك، لم يكن هناك رد على أي سؤال، الخروج من هذا المكان سيد الموقف.
سقط المسحال وتناثرت حجارة المكان على رؤوس المارة، وشوهت معالمنا بالعفار الأسود، وتناثرت ذكريات الفن والمسرح والموسيقى أيضا، في الأرجاء، في ظل احتلال لا يعرف إلا سياسة الدمار الشامل، وها هو يبحث الآن عن الثقافة المتبقية في غزة ليحاربها، ولم يكن المسحال أول مركز ثقافي يقصف، فقد سبقه قبل شهر قصف قرية الفنون والحرف.
وبعد ساعتين، عاد الجميع بذكرى الوجع وببكاء الأطفال، وبوجوه يغلفها سواد الركام المتطاير، محدقين في المبنى الذي قطعت كل السبل للوصول اليه، بينما كانت شمس التاسع من أغسطس تسقط في البحر من فوق رماد المسحال، الذي وإن تقطعت سبل الوصول إليه، فما زالت سبل الوصول إلى حياة مليئة بالأمل والفن والكتابة والفرح والكثير من الغناء حتى لو كانت على أنقاض المسحال، فإن ماتت الجدران ما زالت غزة على قيد الحياة.