قائد الطوفان قائد الطوفان

مكتوب: محاذير ربط غزة مع مصر اقتصاديا

محاذير ربط غزة مع مصر اقتصاديا
محاذير ربط غزة مع مصر اقتصاديا

د.صالح النعامي

فجأة ودون سابق إنذار، باتت مصر المصدر الرئيس لبعض السلع الأساسية في قطاع غزة، التي توقفت (إسرائيل) عن إدخالها عبر المعابر التجارية، كفعل عقابي على تواصل إطلاق الطائرات الورقية والبالونات المشتعلة.

فقد أصبحت مصر المصدر الوحيد لتزويد غزة بالغاز المعد للاستخدام المنزلي، بعد أن كان القطاع يعتمد على (إسرائيل) في استهلاكه لهذه السلعة، إلى جانب ذلك، فإن القاهرة باتت تزود محطة توليد الكهرباء الوحيدة في القطاع بالوقود، وكذلك تزود القطاع بوقود السيارات، والبنزين والسولار، إلى جانب مواد أساسية أخرى.

وتعد هذه المرة الأولى التي تقوم مصر بتزويد القطاع بالسلع الرئيسة بشكل رسمي وليس عبر أنفاق التهريب التي كانت تربط بين شمال سيناء وقطاع غزة، والتي شرع نظام السيسي في العام 2014 بتدميرها.

وتبدو المفارقة كبيرة عندما يتبين أن (إسرائيل) تغض الطرف عن قيام مصر بإدخال مواد أساسية لقطاع غزة، تدعي (تل أبيب) أن لها استخدام مزدوج خطير، مثل الأسمنت، الذي يزعم جيش الاحتلال بأن حركة حماس تستخدمه بشكل أساس في بناء الأنفاق الهجومية.

ونظرا لطابع الشراكة الاستراتيجية الوثيقة والتنسيق الأمني العميق بين (إسرائيل) ونظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، فلا يمكن الافتراض أن مصر تقوم بإدخال هذه المواد بدون موافقة (تل أبيب)، حيث أن القاهرة التزمت الصمت عندما أعلن وزير الحرب الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان قبل حوالي شهر أن مصر لا تقوم بفتح أو إغلاق معبر رفح إلا بعد التنسيق مع (إسرائيل).

وفي حال واصلت (تل أبيب) "معاقبة" قطاع غزة بمنع وصول المزيد من المواد والسلع عبر المعابر التجارية التي تربط (إسرائيل) بقطاع غزة وقامت مصر، في المقابل، بتزويد القطاع بهذه المواد، فإن هذا يؤسس لواقع يتم فيه استدراج غزة للاعتماد اقتصاديا بشكل كلي على مصر، وهو ما يمثل هدفا استراتيجيا لـ(إسرائيل).

فالوزراء الإسرائيليون يجاهرون بان دفع غزة للاعتماد اقتصاديا على مصر يمثل استجابة لأحد أهم متطلبات الأمن "القومي" الإسرائيلي، علاوة على أنه يوفر بيئة لتجسيد المنطلقات الأيدلوجية لليمين بزعامة الليكود، الذي يقوده رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو.

إلى جانب ذلك، فإن الدفع نحو اعتماد غزة على مصر في الحصول على السلع الرئيسة والأساسية قد يكون مرتبطا ببعض الأفكار المتعلقة بالمشاريع الاقتصادية والتي طرحت مؤخرا بوصفها مركبا من مركبات مسار التهدئة الطويلة المقترح بين المقاومة في القطاع و(إسرائيل).

فبعض المشاريع المقترحة لمسار التهدئة تقوم على العمل على إحداث تحول جذري على الواقع الاقتصادي والإنساني في القطاع من خلال تدشين مشاريع اقتصادية وبنى تحتية لخدمة القطاع داخل سيناء، ناهيك عن أن نظام السيسي نجح خلال المباحثات التي جرت في القاهرة واستهدفت للتوافق على مسار تهدئة في اقناع حماس بأن تقبل أن يتم تدشين الرصيف البحري، الذي يفترض أن يتم عبره تصدير واستيراد البضائع لقطاع غزة في ميناء "بور سعيد" المصري.

ولعل أوضح مظاهر الارتياح التي عبرت عنها نخب اليمين الحاكم في (تل أبيب) لربط قطاع غزة بمصر اقتصاديا، هو ترحيب وزير الاستخبارات والمواصلات الليكودي يسرائيل كاتس، الذي قال إنه يتوجب تأييد كل المقترحات المتعلقة بمسار التهدئة مع المقاومة في قطاع غزة إن كانت ترتكز على تدشين مشاريع بنى تحتية داخل مصر.

لكن أخطر ما يراهن ائتلاف اليمين الديني الحاكم في (تل أبيب) على تحقيقه من خلال ربط قطاع غزة بمصر اقتصاديا، ليس فقط التخلص من تبعات اعتماد القطاع على (إسرائيل) اقتصاديا، بل بشكل أساسي تكريس الفصل السياسي بين الضفة الغربية والقطاع.

ففي الوقت الذي تواصل (إسرائيل) تكريس الوقائع الاستيطانية والتهويدية في الضفة الغربية، بإسناد من إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فإن إلحاق غزة بمصر اقتصاديا يمهد نحو تكريس القطاع كوحدة سياسية منفصلة يمكن التعاطي معها واقعيا كـ "دولة فلسطينية"، وهذا ما يستجيب لما جاء في المقترحات التي بلورتها إدارة ترامب لحل الصراع، والتي أطلق عليها "صفقة القرن".

إلى جانب ذلك، فإن إلحاق غزة بمصر اقتصاديا يعزز من قدرة (إسرائيل) على تحقيق أهداف إستراتيجية وأمنية أخرى.

فنظام السيسي الذي يواجه أزمة داخلية خانقة يرى في العلاقة مع الولايات المتحدة و(إسرائيل) مصدرا مهما في تأمين الشرعية الخارجية، مما يجعله لا يتردد في التجند لخدمة مصالح (تل أبيب).

فعلى سبيل المثال، كلما تعاظم ارتباط قطاع غزة اقتصاديا بمصر، كلما تعززت قدرة نظام السيسي على ابتزاز حركة حماس، ومنعها من التعرض لـ(إسرائيل) عسكريا، إلى جانب محاولة إجبار الحركة على إبداء مرونة في كل ما يتعلق بملف الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لديها.

ومما يغري نظام السيسي بالتحمس لإلحاق غزة بمصر اقتصاديا، حقيقة أن إمبراطورية الجيش المصري الاقتصادية ستكون أكثر المستفيدين من هذا الربط، حيث أن الكثير من السلع التي تدخل القطاع تكون من انتاج مصانع الجيش، مثل الأسمنت، ناهيك عن استفادة النظام من الضرائب والمكوس التي ستفرض على حركة البضائع.

البث المباشر