قائد الطوفان قائد الطوفان

مكتوب: لماذا قاد جيش الاحتلال موقف تجنب الحرب؟

صورة
صورة

ناصر ناصر

من المفترض ان يتحرك الجيش ويبني مواقفه بدوافع واعتبارات عسكرية واستراتيجية وتكتيكية بالدرجة الاولى. بينما تتحرك الحكومة وتتخذ قراراتها وتحدد أهدافها في أوقات السلم والحرب بناء على اعتبارات سياسية عامة وواسعة تأخذ بالحسبان كافة الاعتبارات السياسية والاقتصادية والعلاقات الدولية الى جانب الاعتبار العسكري، فالتفكير العسكري اذن يرى بالعدو (وهنا غزة) هدفا يجب التغلب عليه من خلال الاستمرار في ضربه دون النظر أو المبالاة بمعاناته، بل على العكس من خلال زيادتها، فاللعبة في نظر العسكر صفرية، وذلك بعكس التفكير السياسي للحكومة، فالعدو هنا كيان انساني ودولي يجب ان يتم اقناعه، وإرضاؤه حتى بعد هزيمته.

لا يحدث هذا في حالة (إسرائيل) اتجاه غزة، بل يمكن القول ان الامور معكوسة بدرجة واضحة: فالجيش يوصي منذ سنوات بضرورة تجنب الحرب مع غزة من خلال التخفيف الانساني والاقتصادي عنها. فلماذا هذا الموقف؟

قد يكون السبب الاهم فيما يشبه "الانقلاب الوظيفي" بين العسكر والساسة في (إسرائيل)، هو التحولات العميقة والتي ما زالت تجري منذ أكثر من عقد من الزمان، وهي انزياح المجتمع الاسرائيلي، ومعه الخارطة السياسية الحزبية في (إسرائيل) نحو اليمين، وزيادة قوة وتأثير اليمين القومجي والديني، فيما بقيت النخبة العسكرية ورغم تأثرها الواضح بهذه التغيرات، موالية لـ(إسرائيل القديمة) من حيث الرؤية والفكر، والتي يمثلها سياسيا أحزاب الوسط واليسار كحزب العمل وحزب يوجد مستقبل وغيرها، وهي نخبة تؤمن بدرجة ما وتحت شروط معينة بفكرة تقسيم البلاد وحل الدولتين والتوصل لحلول وسط بشكل أو بآخر، وبما يضمن وضوح التفوق الاسرائيلي أمنيا وعسكريا واقتصاديا وسياسيا.

ان حرص وزير الدفاع ليبرمان المستميت على الظهور بمظهر (الصقر المفترس) الذي يحارب حماس ومقاومة الشعب الفلسطيني في كل مكان دون هوادة، وعلى ان يتنصل من أي مسؤولية عن ما يبدو كاتفاق لوقف النار بين المقاومة الفلسطينية الباسلة ودولة الاحتلال، حتى بثمن (اللف والدوران) المكشوف يؤكد مدى عمق الفكر العسكري المدعوم بفكر يميني متطرف في أوساط الناخبين من اليمين ومن ناخبي ليبرمان ومعظمهم من المستوطنين بشكل خاص، وذلك بخلاف النخبة العسكرية المسيطرة على الجيش.

يبدو مستهجناً ومرفوضاً من قبل كل عربي ومسلم او لكل نصير لحقوق الانسان وحريته ما يحاول بعض الكتّاب الغربيين او الاسرائيليين تسويقه حول الدوافع والمواقف الاخلاقية للجيش الاسرائيلي وذلك من خلال ابراز مواقف وتصريحات بعض كبار الجنرالات الصهاينة كيائير جولان وايزنكوت دون التركيز على سياقها الداخلي حيث كانت رداً على هجمات اليمين الاستيطاني ضد موقفهم من ضرورة محاكمة الجندي منفذ الاعدام الميداني للشهيد عبدالفتاح الشريف من الخليل والتي اعتمدت فعلياً على مخالفته تعليمات واوامر اطلاق النار المعمول بها في الجيش، فلا يمكن لقوات احتلال عسكرية تقصف وتقتل وتدمر بلا هوادة حياة شعب آخر لمدة اكثر من 70 عاماً ان تكون اخلاقية بأي حالٍ من الاحوال، ان للدوافع والاسباب المهنية وزناً واضحاً في موقف الجيش بتجنب الحرب مع غزة ذات الجغرافيا الصغيرة والكثافة السكانية الكبيرة والمقاومة الفلسطينية المثابرة والعنيدة، فماذا يريد الجيش من غزة سوى الهدوء؟ ولماذا سيدفع ثمناً باهظاً من موارده البشرية والمالية والمعنوية لاحتلالها او حتى لمجرد المواجهة الواسعة؟

وعليه فقد بنى الجيش رؤيته لغزة على اساس عدم العودة لاحتلالها والاكتفاء بمناوشتها وتوجيه ضربات لها من خلال ما يسمى بلغة الجيش بعمليات (مبم) ومن هنا صاغ ميزانياته وبنى منظوماته العسكرية الاستراتيجية والتكتيكية فهل يمكنه فعلياً اعادة النظر في هذه الرؤية وتلك المنظومات من اجل ارضاء الجانب اليميني الناري او اشباع رغباته وغرائزه العنيفة التي لا تكتفي بدمار عمليات (مبم)؟ ومن ثم التوصل لما يمكن التوصل به من خلال رؤيته الاصلية وذراعها (مبم) حتى وان اراد الجيش اعادة بناء هذه الرؤية، فهل يستطيع فعل ذلك بين عشية وضحاها، لا يقول بهذا عاقل او حكيم، وعليه فالجيش ليس مستعداً عسكرياً لاحتلال غزة والسيطرة عليها لمدة طويلة، لذا ضغط باتجاه تجنب الحرب معها.

لم تلق دوافع المصلحة الخاصة لمؤسسة وقادة الجيش نصيباً من الدراسة او الانتباه واهم هذه المصالح تجنب التعرض للملاحقات القانونية من محكمة الجنايات الدولية والاحكام المتعلقة بملاحقة مسؤولين عن جرائم حرب لا بد وان تحدث بأي معركة واسعة في غزة ولا يمكن الا ان تصل للرأي العام وللجهات القانونية بفضل التطور الكبير في وسائل الاعلام الخاصة والعامة.

ومن اهم مصالح الجيش الخاصة هي مصلحته كتنظيم او كمجموعة مصالح (كمركز الليكود مثلاً) فهو يحرص على سمعته ومكانته العالية في اوساط المجتمع الاسرائيلي فهو يرى ان اقحامه في معارك واسعة ومضنية ولا يمكن حسمها في غزة ستستنزف موارده وستسيء الى سمعته ومكانته المحلية والدولية اضافةً الى انها ستعرضه للمزيد من الضغوطات المطالبة بزيادة الاشراف على ميزانياته حيث بلغت ميزانية الامن 71 مليار شيكل سنة 2017 ونجاعته او كشف حقيقته كجيش منتفخ وسمين بحاجة الى (ديتا او ريجيم صحي ) مما قد يؤدي الى التخفيف من بعض الامتيازات التي يحظى بها جنود وضباط كرواتب التقاعد الباهظة.

وهكذا اجتمعت عوامل التغيرات المجتمعية والاسباب المهنية اضافة الى المصالح الخاصة للجيش لتسهم بشكل حاسم في اصرار الجيش على تجنب الحرب من خلال خطوات جوهرية للتخفيف عن قطاع غزة.

البث المباشر