( أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) الحشر (11)
تزامن الأسبوع الخامس والعشرون لمسيرة العودة وكسر الحصار مع الذكرى الخامسة والعشرين لجريمة أوسلو، تلك التي جاءتْ لتصفية القضية الفلسطينية؛ فاعترفتْ بشرعية الاحتلال الصهيوني، وأقرَّتْ بحقِّه في أربعة أخماس فلسطين خالصةً له من دوننا، ورضيتْ أن يكون الخُمُسُ الباقي محلَّاً للتفاوض؛ بوصفه أراضَي متنازعاً عليها، وقبل الولوج إلى ماراثون المفاوضات؛ لِمَضْغِ الهواء، وخَضِّ الماء؛ قام رُويبضاتُ أوسلو بالتخلي عن أوراق الضغط، وفي مقدمتها المقاومة المسلحة؛ بل وتعهدوا بالقضاء عليها، سواء كان ذلك بازدحام شبابها في سجون السلطة، أو بالوشاية بهم للاحتلال؛ ليكون مصيرهم الاغتيال أو الاعتقال.
ومن العجيب أن تلك الجريمة قد انطوتْ على تأخير الحديث عن الثوابت الكبرى إلى مفاوضات المرحلة النهائية، فلم تشمل حقَّ اللاجئين في العودة الذي هو واجب العودة في الشريعة الإسلامية، بحيثُ يُعَدُّ مرتكباً إحدى الموبقات مَنْ يتنازل عنه في مقابل التوطين، أو التعويض، أو التجنيس، كما لم تشمل تبييضَ السجون من الأسرى الذين ضَحَّوْا بزهرة شبابهم من أجل الحرمات والمقدَّسات، فراحوا يقاومون ولو بالمسدَّسات، فوقعوا في مخالب الاحتلال، وأما القدس والأقصى فقد تجنبوا الحديث عنها؛ إذْ ما قيمةُ المسجد عند مَنْ لا يركع لله ولا يسجد؛ بل يعبد الدولار والعَسْجَد (الذهب)، ممن رضوا بالحياة الدنيا، واطمأنوا بها، وزيَّن لهم الشيطان أعمالهم، فكانوا ممن ضلَّ سَعْيُهم في الحياة الدنيا وهم يَحْسَبون أنهم يُحْسِنون صُنْعاً.
إن آية المقال تدعو إلى العجب من الذين نافقوا في ولائهم لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب، والمراد بهم هنا يهود بني النضير، أولئك الذين أرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وعكة أُحُدٍ، فنقضوا بذلك عهدهم، ولم يكنْ بُدٌّ من إِجْلائِهم، وقد أُعْطُوا مهلة عشرة أيام، فإذا بالمنافقين الذين أقسموا بالله جَهْدَ أيمانهم إنهم لمعكم يُغْرُونَهم برفض القرار، وبالثبات في الحصون، وأن هناك ألفين من الرجال مع ابن سَلُولٍ سيدخلون معهم في حصونهم؛ فإن قُوتلوا قاتلوا معهم، وإن أُخْرِجوا خرجوا معهم، فالمصير واحد، وقد اغترَّ اليهود بيمين المنافقين التي أكدوا بها تلك الوعود، ومع انتهاء المهلة لم يصل أحدٌ من أولئك المنافقين، الأمرُ الذي اضطرهم أن يقبلوا بخيار الرحيل بشروطه الجديدة المُشَدَّدة.
وقد قابل الله عزَّوجلَّ ذلك بتسجيل شهادته بكذب المنافقين، ثم أقسم ثلاثة أيمان على فشل التعاون الأمني بين الفريقين، فقال: "لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ" الآيتان (12، 13)
وفي واقعنا فإن أقزام أوسلو قد نصروا اليهود؛ فهل شفع ذلك لهم؛ حين اضطروا أن يخرجوا من غزةَ أذلةً وهم صاغرون؟!، وهل استطاع المنافقون بالفلتان الأمني، والفوضى الخلَّاقة؛ كما يُسَمِّيها الأمريكان، أن يُضْعِفوا المقاومة؛ ليعودَ الاحتلال، وتستسلمَ له غزةُ من جديد، أم أنهم كانوا كمن قيل لهم من الطغاة الطُّغام: "تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ"، "وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ".
وقد حاول الاحتلال ثلاثَ مَرَّاتٍ أن يجدِّدَ العدوان على غزة، وفي أقلَّ من سِتِّ سنين، غير أنه كان مكرهاً أن يعود خاسئاً إلى التهدئة، وَوَقْفِ العدوان على وَقْعِ ما نزل بجنوده في الحرب البرية، فريقاً تقتلون، وتأسرون فريقاً؛ بل خضع لشروط المقاومة والقسَّام فيما يتعلق بشروط إفلات شاليط في صفقة وفاء الأحرار للأسرى.
ومن الخطأ الجسيم أن نَغْفُلَ عن سنن الله، وعن تدبير الله، ونحن نسرد قائمةً بوجوه الخسران في خيانة أوسلو؛ إذْ من المعلوم أن الله عزَّوجلَّ ليس غافلاً عما يعمل الظالمون، وقد يُملي لهم؛ ليزدادوا إثماً، فيأخذَهم أَخْذَ عزيزٍ مقتدر، وقد توعَّد اليهود بعبادٍ له أُولي بأسٍ شديد، وخاصة في وعد الآخرة؛ أي الإفسادة الثانية والأخيرة؛ لِيَسُوؤُوا وجوهَهم كبتاً وخزياً، أو ذلةً ومَعَرَّةً، وأن ينتزعوا منهم المسجد الأقصى، كما دخلوه أول مرة، ثم لِيُتَبِّروا ما علاه بنو (إسرائيل) تتبيراً.
إن أمارة هذا الوعد، أو الوعيد، أن يأتي اليهود إلى فلسطين لفيفاً؛ لِيتضخَّمَ الاستيطان، ويزدادَ أعداد المهاجرين منهم إلى فلسطين، ولا يتحقق هذا إلا إذا توفَّر الأمن لمن هم أحرصُ الناس على حياةٍ، ولن يتمنوا الموت أبداً؛ بما قَدَّمتْ أيديهم؛ لكنَّ الموتَ لا مفرَّ منه، فأينما تكونوا يدرككم الموت، ولو كنتم في بروجٍ مُشَيَّدة، وإنه آتيِهم عذابٌ غيرُ مردود.
ولذلك فإن أوسلو من كيد الله بهم، ومن مَكْرِه لنا؛ ليتحقق مظهر وعد الآخرة، وتكون القاضية؛ فضلاً عما في ذلك الاتفاق من تمييز الخبيث من الطيب، ومن وجوب التجنُّدِ في معركة التحرير، ما دام القريب يتجهمنا قبل البعيد، لعل الله يكرمنا، فنكون من الطائفة المنصورة التي يكتب الله على أيديهم الخلاص من الاحتلال، وأذناب الاحتلال، بلْ كلاب الاحتلال، بما أنهم مُسَخَّرون في الحراسة لأمنه بالليل والنهار، سِرَّاً وعلانية، والله المستعان.
وإن جندنا لهم الغالبون.