طوفان نحو التحرير طوفان نحو التحرير

طفلة الشهيد "ناجي"

مكتوب: حين صرخ جدُّها: "أبوكي استشهد يا سيدي"

الشهيد محمد ناجي
الشهيد محمد ناجي

غزة- ياسمين عنبر 

سيبقى طيف تلك الطفلة عالقة في ذاكرة باب البيت وحده، فهو شهد القبلات الأخيرة والوعود الأخيرة كذلك.

وحده سيبقى شاهدًا على قبلات أبيها الأخيرة لها، وعلى حديثها المزركش بالتغنج حين توصيه ألا ينساها في خضم يومه.. أن يجلب لها الدنيا بين كفيه.. ذاك اليوم الذي كان كافيًا في قلبها لو عاد ويده فارغة تمامًا.

ذاكرة الباب هذه المرة اشتعلت للمرة الأخيرة، فربما سيشهد وحيدًا على مرور نعش من داخله وطيف طفلة في زاوية العزاء لم تعد طفلة.

كيف لطفلة الثلاثيني "محمد ناجي" أن تختزل كل أفراح حياتها في أن يعود أبوها حاملًا معه الحلوى التي طلبتها منه قبل مغادرته البيت، وكيف لها أن تشعر الآن وهي لم تكن تعلم من ذي قبل أن حياة والدها قد اختزلها بعبارة لطالما رددها على مسامع أصدقائه "لا تمت قبل أن تكون ندًا".

كيف لتلك الطفلة أن يتزامن ربيع عمرها مع خريف الوطن، وأن تتجاوز أحلام أبيها كل الحدود حولها لترنو عيناه إلى بقالة صغيرة كان جده يجلس فيها في قريته "كراتية".

من يقنع "سهير" ذات التسعة أعوام أن أباها كان يريد لها وشقيقتها حياة أجمل من التي يعيشنها بين دفتي السجن هذا.. غزة الجريحة.

ماذا ستقول لها أمها؟ كيف سيعتذر لها جدها إذ كانت المصادفة أن تكون أول من يقابله على باب البيت فصرخ أمامها "أبوكي استشهد يا سيدي".

- كيف يعني أبويا مات؟ أبويا راح؟ لمين بدي أحكي بابا؟ سيدي بتضحك معي ولا خلص أبويا مش حيرجع؟

كانت أسئلة "سهير" لجدها، منتظرة أن تنفي أي كلمة ما قاله جدها، حين كانت تنتظر أباها يوم الثلاثاء الماضي على باب البيت أن يعود، لتركض إلى المسجد وتخبر جدتها.

الخمسينية "أم محمد" التي بدت ذابلة تمامًا إلا من ابتسامة كانت ترتسم على محياها بمجرد سرد حكاية من حكايا حبيب قلبها "حمادة".

يبدل "حمادة" ملابسه ويطلب من شقيقه أن يصفف له شعره بطريقة مرتبة، كما يطلب من الآخر أن يجلب له علبة "عطر" ذات رائحة فواحة، ذاك المشهد الذي أثار استغراب الأم ليدور ذاك الحوار بينهما...

- مالك يا حمادة متشيك وبترش عطر يما؟

- يما حاسس أنى حأرجع لك محمول عالأكتاف، حاسس أني حاستشهد

- لا يا حمادة الشر برا وبعيد يما.. يخليلك شبابك يا حبيبي

- ايه يا حجة.. لو رجعتلك مستشهد خليك تشمي ريحتي مسك

ذهب محمد، وأشاح لأمه بيديه بأن سيعود، لكنها كانت المرة هذه على الأكتاف.. أكتاف أصدقائه التي شعروا أن بها كسرًا ما، جرحًا ما، وصدى صوت "حمادة" يتردد على مسامعهم: "لا تمت يا صديقي قبل أن تكون ندًا".

"نداء الوطن عند حمادة مقدم على كل حياته" يقول والد الشهيد الذي ما انفك يردد "حسبي الله عليهم زي ما حرقوا قلبنا عليه"، وهو ينظر إلى طفلته الصغيرة التي تبكي في حضن جدتها.

فرغم أنه قد أصيب برصاصات الاحتلال مرتين، إلا أنه لم يرَ أنه من الشهامة ترك جرح الوطن نازفًا ولم ينتصر له، يحكي والده.

"سهير" طفلته التي ترفض أن تذهب إلى المدرسة إلا حين يأتي "محمد" ويعطي لها مصروفها، ستدرك بعد دموع كثيرة أن كلمة "استشهد" يعني الرحيل بلا عودة ولو انتظرت سنوات طوال على نفس الباب.

أما زوجته فستبكي كثيرًا، ستهدهد طفلتيها، ستبكي تارة، وتضحك مرات كثيرة، ستفخر، ستخاطب صوره، ستشكو له حملها الذي تركه لها، وستسأل كثيرًا : "من أجهض الوطن العريق.. وكبَّل الأحلام في كل العيون؟"

 

 

 

البث المباشر