مرتكبوها مرضى نفسيون ومراهقون
زوجة حاولت الانتحار رفضا للضرة
المباحث الطبية: دوافعه نفسية واجتماعية فقط
الرسالة نت - فادي الحسني
لم يعد غريبا أن يتناهى إلى مسامع الفلسطينيين في قطاع غزة، أن أحدا ألقى نفسه من علو منتحرا، أو أن فتاة نجت من محاولة انتحار بعد تناولها جرعة عقار مضاعفة.
ويبدو أن حوادث الانتحار لم تعد مجرد حوادث فردية خاصة وأن الأرقام التي سجلتها الجهات الرسمية، تعكس مدى انتشار هذه الجريمة، والتي كان معظم مرتكبيها من صغار السن.
وتنذر عدة محاولات انتحار ارتكبت مؤخرا في القطاع، بمعضلة حقيقية تتهدد المجتمع الغزي المعروف بعاداته وتقاليده الاسلامية, لكن الأسئلة الملحة التي آثرت الرسالة الإجابة عليها هي : كيف يمكن كبح جماح آفة خطيرة كالانتحار ؟ ومن أين تسللت مثل هذه الثقافة إلى المجتمع؟ وكيف ينظر أهل الاختصاص لمثل هذه الجريمة؟.
دخيلة
وتعد آفة الانتحار دخيلة على المجتمع الغزي، لاسيما أنه يعتبر مجتمعاً محافظاً، تطغى فيه العادات والتقاليد على سلوك الأفراد وتصرفاتهم في كثير من الأحيان.
وحسب إحصاءات رسمية سجلتها المباحث الطبية في قطاع غزة، فإن عدد محالات الانتحار بلغت خلال العام الحالي ثلاثة عشر حالة، من بينهم ثلاثة ذكور والباقي إناث، فيما تراوحت أعمارهم بين السادسة عشر والثانية والأربعين.كما سجلت المباحث الطبية ثلاث حالات انتحار خلال العام الحالي، اثنين من الذكور وفتاة.
وحسب ما أكدته مصادر مطلعة في المباحث الطبية لـ"الرسالة نت " فإن فتاة في السابعة عشر من عمرها، حاولت الانتحار لأن زوجها يرغب في الزواج من فتاة ثانية، مبينة أن معظم الحالات التي حاولت تنفيذ جريمة الانتحار بحق أنفسها، جاء نتيجة مشاكل عائلية وأزمات اجتماعية.
ولفتت المصادر إلى أن دوافع الانتحار كانت "تافهة" على حد تعبيره، ولا ترتقي حتى لمستوى الأزمة لدى بعض الحالات التي أقدمت على تنفيذه.
وحسب ما تمخض عن التحقيقات في ملابسات حالات الانتحار الثلاثة الأخيرة في مناطق متفرقة من القطاع، فإن هذه الحالات تعاني مرضا نفسيا، وهو الأمر الذي أكده مشفى الطب النفسي في غزة.
وقال الطبيب عايش سمور مدير عام الصحة النفسية إن وصول مرضى نفسيين إلى حالة الاكتئاب الشديد يؤدى إلى إقدامهم على الانتحار، مشيرا إلى أن دورهم في الطب النفسي العمل على وقاية مثل هذه الحالات.
وردا على سؤال "الرسالة نت" : لماذا لم تحُل مشفى الطب النفسي دون تنفيذ المرضى النفسيين الثلاثة جريمة الانتحار؟، قال سمور:"عندما نعلم أن مريضا نفسيا يفكر في الانتحار نأخذ موضوعه على محمل الجد ويتم مراقبته باستمرار ونعطيه أدوية لتخفيف الاضطراب العقلي لأن التفكير في الانتحار قضية ظلاليلة وتفكير خاطئ، لكن الحالات التي أقدمت على الانتحار لم يسبق لها أن فكرت في الانتحار أو حاولت تنفيذه".
وأشار إلى أن الطب النفسي حريص على دراسة التاريخ المرضي للمريض النفسي، والسؤال هل حاول الانتحار مسبقا، إضافة إلى أخذ علامات الخطورة كمعرفة إن كان هناك احدا من أفراد العائلة أو الأسرة قد أقدم على الانتحار، كذلك فإن العمر له دور أيضا، خاصة وأن المرضى النفسيين في سن 15-18 عاما والذين يفكرون في الانتحار، غالبا ما ينفذون قرارهم منذ اللحظة الأولى.
وشرح مدير عام الصحة النفسية، الدوافع التي وقفت خلف تنفيذ "ع.ِش" وهي الحالة الأخيرة التي نفذت جريمة الانتحار قبل أقل من شهر- والتي تمثلت في معاناته من الحصار المفروض على القطاع، وحرمانه من السفر، خاصة وأنه وافد إلى غزة منذ فترة وحرم من العودة إلى الأردن -مسقط رأسه- كما أنه كان يفتقد للمأوى، وبات يشعر أن وجوده يمثل عالة على المجتمع.
وقال سمور:"شعور المريض النفسي بالاكتئاب الشديد، يجعله يفقد قيمة الحياة، ويعتبر أن عدم وجوده في الحياة أفضل من بقائه على قيدها".
وفي إطار مساعيهم للحد من هذه الأزمة ألمح سمور إلى أن مشفى الطب النفسي يعمل على إنشاء مركز خاص لمنع حالات الانتحار ولعلاج الحالات التي حاولت تنفيذه.
فوارق
وكانت قد رصدت "الرسالة نت " العام الماضي في سياق تحقيق أجرته على ذات القضية، ثلاثة وسبعين محاولة انتحار في الأشهر الأخيرة من العام 2009 .
ويبدو أن نسبة محاولي الانتحار من الإناث هي الأكثر في العامين الأخيرين، كما لاحظت "الرسالة" لكن العام الماضي كانت أصغر محاولة انتحار لفتاة بلغت أربعة عشر عاماً، فيما بلغت أكبرها سناً سبعة وخمسين عاماً.
والفرق بين الدوافع التي تقف خلف محاولات الانتحار العام الماضي عن العام الحاضر أن الظروف الاقتصادية لم تعد سببا وراء تنفيذ الانتحار.
ووفقاً للتحقيقات فإن الأدوات التي استخدمت في محاولة الانتحار خلال العامين الأخيرين، تمثلت في تناول عقار وحبوب مخدر، يليها تناول السم (المبيد الحشري)، ثم السقوط من علو، ثم استخدام آلة حادة (مشارط)، إضافة إلى الإقدام على الحرق.
ورصدت المباحث الطبية حالة طالبة في الثانوية العامة كانت تعاني خوفا شديدا، ليلة الإعلان عن النتيجة، فتناولت كمية من العقار للتخلص من خوفها، إلا أن سرعة اكتشاف ذويها للأمر، حال دون قتلها لنفسها.
ويتضح من خلال تحقيق "الرسالة" أن ثلاثة محاولات انتحار -حالتان من العام الماضي وواحدة من العام الحالي- كان أسبابها عدم التمكن من السفر، لإغلاق المعابر بفعل الحصار "الإسرائيلي" على غزة.
ويرجع أستاذ علم النفس في جامعة الأقصى د.درداح الشاعر، ظاهرة الانتحار إلى عدة أسباب، أبرزها : ضعف الإيمان، ويقول: "الشاب أصبح عندما يواجه مشكلة ما ولا يقدر على مواجهتها، يعتبر الأمر أنه نهاية الحياة وبالتالي يلجأ للانتحار".
وبين الشاعر أن بعض المشكلات الخاصة "النفسية أو الجنسية أو الاجتماعية" تدفع ببعض الأشخاص للإقدام على ارتكاب جريمة بحق أنفسهم، مشيرا إلى أن الظروف التي يعيشها الإنسان الفلسطيني وعدم وضوح المستقبل السياسي ربما كانت دافعاً أيضا من دوافع الإقدام على الانتحار.
آفة غريبة
ووفق الأرقام التي تحدثت عنها الإحصاءات بـ"الغريبة", مشيراً إلى أنها تعطي مؤشراً يعكس حالة ضعف الشخصية لدى بعض الشباب المراهقين وغير المتدينين.وقال أستاذ علم النفس: "ربما وصل الشباب إلى درجة لا يستطيعون فيها التصدي لمشكلاتهم، وعجزوا عن مواجهة الواقع، الأمر الذي يتطلب تعبئة إيمانية لهؤلاء الشباب".
وشدد على ضرورة تبيان المخاطر الناجمة عن هذه الظاهرة "كخسران الحياة الدنيا والآخرة" ويقصد بذلك أن المصير سيكون "جهنم".
ويتفق أستاذ الشريعة بالجامعة الإسلامية د.ماهر الحولي، مع سابقه في قوله "إن الله سيحاسب من يقدم على مثل هذه الجريمة (..) وكأنه يدخل النار بإرادته وبمزاجه" كما قال.
وأضاف الحولي "أن الشريعة الإسلامية حافظت على النفس البشرية وأرادت من الإنسان المحافظة على نفسه"، مشددا على ضرورة أن يتقي الله كل من يفكر في مثل هذا العمل المشين".
ولفت إلى أن الشريعة الإسلامية حرمت قتل النفس بحجة عدم وجود رزق أو طعام، مستشهدا في حديثه بآيات من القرآن الكريم :( وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا".
وفي آية أخرى قال تعالى (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، وهو ما فيه استنباط بضرورة عدم اعتداء الشخص على نفسه، كما يقول الحولي.
واستحضر أيضا حديث من السنة النبوية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً).
ويقرأ الحولي فيما أورده من أدلة من القرآن والسنة، أن الإسلام حرم الانتحار، ويصور كل إنسان قتل نفسه بأنه يأتي يوم القيامة على الهيئة التي قتل نفسها عليها، معبرا عن استغرابه الشديد من إقدام بعض الناس على تنفيذ هذه الجريمة.
على نحو متصل ذكر التربوي د. داوود حلس أن سوء التربية يعد سببا مهما وراء لجوء البعض إلى الانتحار، مبينا أن ضعف العقيدة أيضا يدفع البعض للانتحار.
وقال حلس :"إن المسلم يجب أن يتحمل الصعاب ويتحلى بشخصية قوية و أن يتوكل على الله رغم كل ما يواجهه"، مشددا على دور الوالدين في غرس الثقة بالنفس لدى أبنائهم، ودعمهم نفسيا وزرع الأخلاق الإسلامية فيهم، كذلك مواساتهم في حال وقوعهم بالمشاكل.
وأشار إلى أهمية ألا يكون دور الآباء و الأخوة هو التأنيب فقط حتى يؤدي بالشاب أو الفتاة إلى الانتحار للتخلص من هذا التأنيب، "لكن يجب عليهم مواساتهم و الوقوف بجوارهم إذا ما مروا بأزمات" كما قال.
وفي ذات السياق شدد حلس على ضرورة مراقبة الأبناء والتعرف على أصدقائهم، "لأن الأقران لهم أثر كبير في زرع أفكار سلبية في عقول بعضهم البعض".
الغزو الفكري
ويلفت التربوي حلس الانتباه إلى قضية مهمة، ربما غابت عن ذهن الكثير، وهي الغزو الفكري الغربي من خلال وسائل الإعلام، قائلا: "للإعلام الغربي غير المراقب، دور في غرس الأفكار السلبية في عقول بعض الشباب".
والجدير ذكره أن طفلا من الضفة المحتلة انتحر بعد مشاهدته المسلسل التركي وادي الذئاب, في تقليد أعمى للمسلسلات والبرامج الغربية.
ووجه حلس انتقادا لوزارات الإعلام في الدول المنتجة للمسلسلات و غيرها من البرامج التي يشاهدها الأطفال و الشباب و التي بدورها قد تغرس فيهم الأفكار السلبية مثل الانتحار، مشددا على ضرورة مراقبة وسائل الإعلام.
فيما طالب أستاذا علم النفس والشريعة بضرورة، وضع مخافة الله نصب أعين الجميع، مشددين على ضرورة تقوية الوازع الإيماني لدى الجيل الناشئ.ويقول الشاعر: "هذه الظاهرة تعكس ضعف الشخصية، وهذا يتطلب فتح آفاق المستقبل أمام الشباب، وتوفير فرص العمل لهم"، مشددا على أهمية رفع مستويات الوعي والفكر عن الأسرة الفلسطينية.
وطالب بضرورة تواصل الآباء مع أبنائهم بشكل مستمر لمعرفة مشكلاتهم ومساعدتهم في حلها، وتعزيز نماذج النجاح التربوي في الأسر الفلسطينية.فيما طالب الحولي الجيل الشاب تحديدا، بعدم اليأس والتشاؤم من الحياة، مشيراً لأهمية أن تلعب المؤسسات المختصة دوراً كبيراً في توعية الشباب وتثقيفهم.
وقال الحولي في ختام حديثه: "يجب أن تأخذ كل من المساجد والعلماء والمؤسسات التعليمية وكذلك الأسرة ووسائل الإعلام، دورها في تعزيز القيم الدينية والإيمانية لدى الشباب، للحد من تفاقم هذه المعضلة".وربما يكون هذا التحقيق بمثابة طرقة على جدار الخزان، لعل الأسر والمربين في المؤسسات التعليمية والمساجد، ينتبهوا لخطورة هذه الظاهرة التي أضحى السماع عنها كالسماع عن نبأ قتل قط!.
وتحتم علينا المسؤولية الاجتماعية أن نطالب كل ذي موضع مسؤولية, بوضع حد لهذه الآفة, قبل ان تستفحل أكثر فأكثر في الوسط الشباب وتقلب موازين المجتمع الغزي المحافظ.