أ. يوسف علي فرحات
إذا كان المؤمنون يفرحون بقدوم رمضان ، فإن فرحهم بدخول العشر الأواخر منه كفرح من قال : ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك )- أخطأ من شدة الفرح – فهؤلاء يجدون جنتهم في هذه الأيام ، حيث لذة العبادة وروعة
الخلوة . فالخلوة بين الفينة والفينة مع النفس ضرورة جدّاً لكي يتفرغ القلب وليس لها مثيل في سُنَّة الاعتكاف ، وقد اعتكف خير الصفوة نبي الله - صلى الله عليه وسلم - رغم كثرة شغله ، واعتكف أصحابه معه وبعده ؛ فهم يعلمون أن في القلب شعثاً لا يلمُّهُ إلا الإقبال على الله ، وجمع كلِّيته عليه تعالى بحيث يصير ذكره سبحانه وحبه ، والإقبال عليه زادَه بل وحلاوتَه .
يقول عمر رضي الله عنه : « خذوا حظكم من العزلة » [ رواه ابن المبارك في الزهد ] . وقال مسروق : « إن المرء لَحقيق أن يكون له مجالس يخلو فيها ، فيذكر فيها ذنوبه ، فيستغفر منها » [ رواه ابن المبارك في الزهد ]
وقال صاحب الظلال : " لا بد لأي روح يُراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى .. لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت .. ) إلى أن يقول : " فالاستغراق في واقع هذه الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له ، فلا تحاول تغييره . أما الانخلاع منه فترة والانعزال عنه ، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير ومن الشواغل التافهة ؛ فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر منه ويدربه على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عُرف الناس ..."[ الظلال 6/3741] .
فالنفس تحتاج لوقفات وخلوات ، لزيادة رصيد الإيمان وسكب العبرات ، خاصة في زمن الفتن والشهوات ، الذي ننسى فيه كثيراً حاجة النفس والذات لصفاء القلب ، وبقدر ما في القلب من النور سيكون قوة إشعاعه ؛ لأن تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقيقة الإيمان ولذته ، ولذا
قال أبو بكر المزني : « ما فاق أبو بكر رضي الله عنه أصحاب رسول الله بصوم ولا صلاة ، ولكن بشيء كان في قلبه » [ جامع العلوم والحكم 1/225]
لقد حرص رسول الأمة على هذه العبادة رغم أن انشغاله بالدعوة والتربية والتعليم والجهاد .. تاركاً لمن بعده ممن يقتفون أثره وينتهجون نهجه درساً عظيماً في أهمية الانقطاع إلى الله عز وجل والتحرر من المشاغل والمسؤوليات كائناً من كان صاحبها في الدعوة والعلم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتكف كل رمضان عشرة أيام ؛ فلما كان العام الذي قُبِضَ فيه اعكتف عشرين يوماً) [ رواه البخاري ، رقم 2044] .
ولا شك أن هذا الاعتكاف ما شُرع إلا لحِكَمٍ عظيمة ، لعل منها
1 - استدراك كل نقص ، وتعويض كل تقصير يحصل للمرء في علاقته بالله تعالى من جراء كثرة الانشغالات الدعوية والعلمية ونحوها ، أو من باب أوْلى : المشاغل الناتجة عن العلائق الدنيوية كالزوجة والأبناء والوظيفة .
2 - زيادة الصلة الإيمانية بالله ، وفتح المزيد من الأبواب التعبدية التي تزكي النفس وتؤهلها لمواجهة الفتن واستنقاذ الآخرين منها بإذن الله . وفي ليالي رمضان فرصة عظمى للمعكتف لإطالة القيام بكتاب الله تعالى وتشجيع نفسه بكثرة القائمين ومنافستهم ؛ على ألاّ يجعل لنفسه غاية دون هذه النماذج العظيمة من السلف ونحوها . كيف لا وقد قال أبو سليمان : (أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم ، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا)[ تزكية النفوس ص62] .
3 - الاعتكاف فرصة عظيمة لطلبة العلم الذين اشتغلوا بالتحصيل والتعليم عن كثير من التطبيق والعمل ، ولا سيما أن العقلاء يرفضون أن يعلِّم الناس امرؤ ما فيه نجاتهم ثم ينصرف هو عن ذلك . قال النبي صلى الله عليه وسلم : « مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها »[ صحيح الجامع ، رقم 5837] .
4 - الاعتكاف موسم عظيم للدعاة والمربين ؛ أولاً : لسد النقص الذي اعتراهم لانشغالهم بالخلق . وثانياً : لاستغلال الفرصة للرقي بالمستوى الإيماني والتعبدي عند المدعوين والمتربين . إنه من الوضوح بمكان وجود حالة ضعف عامة في همم الصالحين فيما يتعلق بالجوانب التعبدية والسلوكية مقارنة بما يراد منها لإصلاح المجتمع والارتقاء به إلى مشابهة مجتمع السلف الصالح ؛ ولذلك فإننا بحاجة لانتهاز موسم رمضان عموماً وعبادة الاعتكاف خصوصاً لتحسين الصورة العامة من خلال مخاطبة الأفراد .
5 - وهو فرصة عظيمة لاختبار الإخلاص المحض لله تعالى في كل الأعمال والحركات والسكنات ، وهذه النقطة أكبر من أن ينظر إليها من زاوية فردية ؛ فالإخلاص هو مدار قبول جميع الأعمال الموافقة للشريعة ومنها كل ما يتعلق بالدعوة والتربية والتعليم . وإنه لمن الخسران العظيم أن تنفق وتبذل الأموال وتبذل الجهود ثم يكون المانع من تحقيق الأهداف المطلوبة شرعاً دَخَلٌ في إخلاص العاملين ؛ والإخلاص على خطر عظيم في أوساط الجماعة الواحدة كما هو معلوم .
6 - الاعتكاف فرصة للخلوة الفكرية التي يستطيع بها الداعية أن يحكم على مساره ويقيم إنجازاته : هل ما زال يسير وفق الخطوة المرسومة إلى الهدف المحدد ، أم مال عنه ؟ وما نسبة الميل ؟ وهل تراه يحتاج إلى تعديل المسار أم مراجعة الهدف وإعادة صياغته ؟ إن فترة الخلوة الروحية في الاعتكاف عظيمة لتحقيق الخلوة الفكرية ؛ إذ تكون النفس أقرب إلى التجرد من حظوظ النفس وأوْلى بمحاكاة المثالية التي تلفظ العادة الدارجة ، ولكونها محطة توقف عن العمل يسهل استئنافه بعدها وفق الشكل الجديد الأسلم .
فينبغي على كل عاقل انتهاز الفرص ، واستثمار هذا الموسم ؛ لتقوية العلاقة بالله ، وتصفية القلب مما علق به من الرَّيْن ؛ فرمضان جُنة المحاربين ، ورياضة الأبرار والمقربين ، يعيد للقلب والجوارح صحتها التي سلبتها أيدي الشواغل والصوارف حتى وإن كانت خيراً ؛ فالعاقل يعلم يقيناً أن أول ما عليه النجاة بنفسه ، وأنه إن لم يأخذ فلن يعطي ، وبحسب كمية الوقود يكون طول المسير . وليعلم أن الأمر صعب ، وأن التسديد والمقاربة أصعب ، فإن لم تستطع أن تملأ خزان الوقود أو أن تخفف من تلك الشواغل المباركة كل رمضان ، فلا أقل من استثمار العشرة الأخير منه ، وخاصة بالاعتكاف ، فلا بد من خلوة للعاقل يخلو فيها بنفسه للذكر والفكر والمحاسبة لتزكية النفس . وقد قالوا : النفس كالشريك الخائن إن لم تحاسبه ذهب بمالك .