قائد الطوفان قائد الطوفان

"كرسي الكذب" في نيويورك تايمز

"كرسي الكذب" في نيويورك تايمز
"كرسي الكذب" في نيويورك تايمز

بقلم - أحمد الكومي

طالعتنا صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية بمقابلة مستفزّة لعضو اللجنة المركزية لحركة فتح ووزير الشؤون المدنية حسين الشيخ، أظهر نهجًا مقابلًا للموقف الرسمي للسلطة الفلسطينية من مسألة وقف التنسيق الأمني مع (إسرائيل)؛ ردّا على خطوة الضمّ.

اختارت نيويورك تايمز التوقيت الصحيح والضيف المناسب لاستطلاع الموقف الرسمي بتفاصيله، وهي مهنية تستمدّها من كونها الصحيفة الأكثر قراءة وتداولًا على مستوى العالم، والأكبر في الولايات المتحدة.

تُلقّب الصحيفة بـ "السيدة الرمادية" نسبة للظهورِ والأسلوبِ، وهي تعتبر "الصحيفة الرئيسية" الوطنية، لكنها تجاوزت في تأثيرها حدودها الوطنية، وبشكل أكثر بروزًا في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

يمكن ملاحظة ذلك من خلال المقابلات الحصرية التي تختار الصحيفة التوقيت الملائم لها، لكن الأكثر أهمية هي اعترافات الضيوف والمضامين الكلامية التي تصبح حديث الرأي العام والعناوين الرئيسة في الإعلام المحلي لدول الضيوف.

يعود ذلك بالأساس لمهارة وخبرة ممتدة في طرح الأسئلة الصحيحة بأنواعها المتداولة بين الاستيضاح والربط والتعمّق والتوسّع وأسئلة المكاشفة، والأهم قد يكون امتلاك الفضول المعرفي والسياسي، والقدرة على استكشاف جوانب المسائل السياسية بطريقة قد لا يجيدها آخرون.

إلا أن اندفاع الجالسين أمام أسئلة الصحيفة وحرصهم على تقديم الإجابات والظهور بمظهر المسؤولية في مواقعهم، قد ينتج عنه قول الحقيقة مثلما فعل حسين الشيخ.

أجرت "نيويورك تايمز" ثلاث مقابلات مطولة مع مسؤولين فلسطينيين في الفترة بين يونيو 2019 وحتى يونيو الجاري 2020، وهذا ما رصدته للصحيفة في سنة واحدة، وآخرها مع "الشيخ"، وقبلها رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية، والثالثة مع جنرال في أجهزة الأمن الفلسطينية قالت إنه اشترط عدم الكشف عن هويته؛ لأنه غير مصرح له بالتحدث إلى وسائل الإعلام.

وبتحليل ظروف هذه المقابلات، يمكن استنتاج أن نيويورك تايمز كانت أكثر دهاءً من ضيوفها، وقدمت للرأي العام الفلسطيني مادة صحافية قد تستوجب الامتنان.

اختارت الصحيفة الأوقات الصحيحة التي وضعت ضيوفها أمام اختبار مصداقية مع الرأي العام، فقد حاورت اشتية بعد 3 شهور بالضبط من تكليفه بتشكيل حكومته، وتحديدًا في 6 يونيو 2019، وقبل أسبوعين من مؤتمر البحرين الاقتصادي.

وصرّح حينها اشتية بالعنوان الرئيس للمقابلة، بأنه يحذر من انهيار السلطة وإفلاسها خلال شهرين، وأن هذا الأمر قد يضطر السلطة لحلّ أجهزتها الأمنية، وهو ما رأت فيه نيويورك تايمز تهديدًا مباشرا لـ(إسرائيل) التي تهتم بضمان الأمن في الضفة الغربية. لكن الذي حصل هو أن السلطة بقيت واستمر التنسيق الأمني، ولم يولد مؤتمر البحرين ميتًا؛ لأننا بدأنا نشاهد إرهاصاته في صورة الضمّ والتطبيع.

كما أجرت الصحيفة مقابلتين في غضون شهر مع "الشيخ" وجنرال أمني فلسطيني، في الشهر نفسه لإعلان وقف التنسيق الأمني مع (إسرائيل) مايو 2020؛ عملًا بإعلان الرئيس محمود عباس مساء يوم 19 مايو الماضي أن منظمة التحرير ودولة فلسطين أصبحتا في حلّ من جميع الاتفاقيات مع الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية ومن جميع الالتزامات المترتبة عليها؛ ردًا على "الضم".

والحقيقة أن اعترافات الوزير والجنرال أظهرت كما لو أن "نيويورك تايمز" أجلست الاثنين على جهاز "كشف الكذب"؛ لأنه تبين من أقوالهما عدم صحة قرارات وقف التنسيق الأمني، وأن أي مواطن فلسطيني يخطط لهجوم يستهدف إسرائيليين فسيعتقله أمن السلطة، وسيخبر عنه كذلك، بقول الوزير.

وأثبت صحة ذلك، قول الجنرال إنه لم يتلق حتى الآن أوامر توضح الخطوات العملية التي سيتم اتخاذها لإلغاء التعاون الأمني، رغم أن اشتية اجتمع بقادة الأجهزة الأمنية في مكتبه برام الله، وبحث معهم آليات تنفيذ "قرارات القيادة" ووقف كل أشكال التواصل مع (إسرائيل)، وقال في الاجتماع نفسه "من الآن فصاعدًا لن نلتزم بهذه الاتفاقيات".

لا يمانع المسؤولون في السلطة الحديث للإعلام الأمريكي رغم القطيعة في العلاقة ظاهريًا بين القيادة الفلسطينية وواشنطن، بمنطق التأثير في المجتمع الغربي وإيصال الرأي، وفي أحيان إثارة الإعجاب، لكن النتيجة تكون كشف المستور.

هنا تبرز الوظائف السياسية للإعلام في ممارسة الدور الرقابي على صانعي القرار نيابة عن المواطن، وتقديم الإيضاحات حول القضايا التي تهمّه. فمن يقرأ السطور وما بينها ويقارنها بالواقع، كحالة "نيويورك تايمز" مع ضيوفها، يدرك مدى قانونية "كرسي الكذب"، وصلاحية استخدامه مع بعض السياسيين.

البث المباشر