لقمتهم مغموسة بالدم

جامعو الحصمة يزحفون نحو الموت بحثا عن الحياة

غزة- محمد أبو قمر- الرسالة نت

يغربلون الرمال والموت يدنو منهم ، عيونهم ترقب حركة  آليات الاحتلال النشطة في المنطقة الحدودية مع كل كومة حصى يعثرون عليها ، وتتزايد دقات قلوبهم مع كل دقيقة خوف من طلقات مباغتة تفتت عظامهم كالحصى. 

يتسلل أبو موسى وأبناء عمومته على عربتي كارو قبل أن تنسج الشمس خيوطها على شاطئ بحر شمال غزة، ورغم رهبة الموقف والخطر الذي يتربص بهم يصرون على جني رزقهم من بين براثن الموت الذي تفوح رائحته من الغبار الذي تخلفه حركة الآليات الإسرائيلية، وغربال الرمال.

من الرابعة فجرا وحتى الحادية عشر صباحا تمتد رحلة البحث عن لقمة العيش المغمسة بالدماء الممزوج بالرمال، يحاولون غربلة رمال الشاطئ ليخرجوا ما تسنى لهم من الحصمة، الشحيحة في غزة المحاصرة.

يرفض أبو موسى الإفصاح عن اسمه كاملا ويقول إنهم يتمكنون من استخراج عربتي كارو محملة بالحصمة يوميا، وتقدر العربة الواحدة بثلاثة وثلاثين دلوا كبيرا ويقدرون وزنه بالطن.

ويبيع أبو موسى وأبناء عمومته السبعة عربة الحصمة للسوق المحلي بمائة وثلاثين شيقلا، يوزعونها فيما بينهم.

يزحف جامعو الحصمة مع الرمال ينقبون عن رزقهم، ويعلمون أن المنطقة المتاخمة للحدود غزيرة بالرزق، وممتلئة بالحصمة من بقايا دمار المستوطنات المخلاة، وتستحق المجازفة.

على مرمى العين تظهر الثكنة العسكرية على حدود الشاطئ الشمالية لا تفصل بينها وبين جامعي الحصمة سوى الرمال الصفراء، لكن أبو موسى يقول أنهم في منطقة آمنة.

ويكمن الخطر كما يرى في من يتسلل إلى نقطة متاخمة للثكنة لا تفصل بينهم وبينها سوى بضعة أمتار.

ونصح أبو موسى مراسل "الرسالة نت" بعدم المغامرة والتقدم للاطلاع على أحوال أولئك العمال، وقال "بات عمال الحصمة معروفين لقوات الاحتلال في المنطقة، وأي شخص غريب يتعرض لإطلاق نار مباشر".

ورغم معرفة الاحتلال بأن عمال جمع الحصمة جاءوا للبحث عن رزقهم بين الرمال والغبار، إلا أنهم وضعوهم في دائرة الاستهداف، فقد أكد أدهم أبو سلمية المنسق الإعلامي للخدمات الطبية أن عدد الجرحى من عمال الحصمة بلغ منذ انتهاء الحرب على غزة ثمانية وخمسين جريحا، فيما ارتقى اثنين منهم شهداء برصاص الاحتلال القاتل.

وأضاف أبو سلمية أن معظم الجرحى من الأطفال والفتية دون سن الثامنة عشر عاما من الذين يذهبون لجمع الحصمة لسد رمق أسرهم الفقيرة التي أرقها الحصار الظالم على قطاع غزة منذ أربع سنوات.

وأوضح أن شهر أكتوبر الحالي هو الأشد على هؤلاء العمال حيث أصاب الجيش الإسرائيلي حتى إعداد التقرير ثمانية منهم كان آخرهم ثلاثة عمال صباح الخميس الماضي ليرتفع عدد المصابين منذ بداية الصيف الحالي لـ 22 جريحا.

يتحدث أبو موسى ورفاقه عن إصابات متكررة في صفوف عمال الحصمة، لكن لقمة العيش قتلت الخوف في قلوبهم، ودفعتهم للمخاطرة بأرواحهم، ويشير بسبابته إلى المنطقة المتاخمة للحدود التي تكثر فيها الإصابات.

من تلك المنطقة تتسلل عربة كارو يسير مالكها إلى جانبها بحركات هادئة، قادما من "مربع الموت" كما يطلق عليها جامعو الحصمة.

بدأت تقاسيم وجهه التي غزاها الغبار تتكشف شيئا فشيئا، ويتصبب العرق من جبينه المحمر، توقف برهة ليشعل سيجارته ويرتشفها بحرقة واكتفى بتعريف نفسه باسم "أبو حسن"، " نخاطر، ونعلم أننا إذا وصلنا المنطقة الحدودية ربما لن نعود، لكن ما في مجال للخوف، "بدنا نعيش", ينطقها بحسرة.

يستذكر المشهد جيدا، لا زال عالقا في مخيلته، وهو ينتشل صاحبه الذي أصابته قوات الاحتلال الخميس الماضي.

يخرج زفيرا مملوءا بدخان سيجارته, ويضيف " نصحته بعدم التقدم أكثر باتجاه السلك الشائك، لكنه أصر على أن هناك أكواما من الحصمة، ما أن حاول الاقتراب حتى كانت رصاصات الاحتلال أسرع إلى ساقيه".

لم تكن سوى عربة الكارو لتسعفه، انتشله بمساعدة زملائه، ووصل به لمنطقة آمنة حتى وصلت سيارة الإسعاف".

بابتسامة يخفي بها ألم يعتصر بداخله من سوء الحال، يعبر عن انتزاع الخوف من قلوبهم ويصف نفسه "حمار بيسوق حمار" ... هكذا يستهزئ من عمله وعدم مبالاتهم برصاصات الجيش التي ترقبهم لتنتزع أرواحهم.

أنهى وقفته القصيرة ودخل بطرق ترابية يختبئ وراء بعض الأشجار، ليؤمن طريق سيره.

في منطقة ساخنة أخرى إلى أقصى الشمال بالمنطقة المعروفة "ايلي سيناي" سابقا تسير عجلات السيارة ببطء تتقدم والخوف يلف من فيها، كلما تقطع مسافة قصيرة تتوقف "الرسالة نت" لتسأل عن إمكانية التقدم بأمان، حتى وصلت إلى نقطة يصفها المزارعون بأنها الخطوط الحمراء، وكل من يتجاوزها يتعرض للنيران.

من هناك يظهر جيب قوات الاحتلال يسير في المنطقة الحدودية ذهابا وإيابا، وتبعه آخر يعرف "بالباور"، وتقف عربات كارو جامعي الحصمة متاخمة لهم، حيث يقول المزارعون عنهم بأنهم أموات في بيوتهم من دون عمل، لذلك يفضلون الموت هنا وهم يبحثون عن لقمة عيشهم".

الساعة السادسة صباحا يحط جامعو الحصمة معداتهم على الحدود، يلملمون رزقهم من بقايا مباني المستوطنة المدمرة، ويغادرون المنطقة قبل الحادية عشر صباحا، بالحصمة التي تمكنوا من جمعها، هربا من الموت.

يشدون العمال عرباتهم، وتثقل خطاهم في رحلة العودة بعد يوم عمل شاق، وترسم أشعة الشمس العمودية أشعتها على عرق جبينهم، وهم لا يعلمون أنهم سيعودون غدا سائرين على أقدامهم أم محملين على عرباتهم. 

 

البث المباشر