التَّوْجِيهَاتُ الْوَافِيَةُ
بِشَأْنِ التَّدَابِيرِ الْوَاقِيَةِ
الْحَدِيثُ (1)
عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الطَّاعُونُ آيَةُ الرِّجْزِ، ابْتَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ بِهِ نَاسًا مِنْ عِبَادِهِ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ، فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلَا تَفِرُّوا مِنْهُ)([1]).
فِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ:
الْأُولَى: الطَّاعُونُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ هُوَ: الْوَبَاءُ الَّذِي يَقُودُ إِلَى مَوْتٍ عَامٍّ، أَفَادَ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ: أَنَّ النَّاسَ قَدْ وَضَعُوا الطَّاعُونَ دَالًا عَلَى الْمَوْتِ الْعَامِّ كَالْوَبَاءِ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: الطَّاعُونُ الْوَبَاءُ، وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: الطَّاعُونُ الْمَرَضُ الْعَامُّ الَّذِي يَفْسُدُ لَهُ الْهَوَاءُ، وَتَفْسُدُ بِهِ الْأَمْزِجَةُ وَالْأَبْدَانُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بنُ الْعَرَبِيِّ: الطَّاعُونُ الْوَجَعُ الْغَالِبُ الَّذِي يُطْفِئُ الرُّوحَ كَالذَّبْحَةِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِعُمُومِ مُصَابِهِ وَسُرْعَةِ قَتْلِهِ، وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِي: هُوَ مَرَضٌ يَعُمُّ الْكَثِيرَ مِنَ النَّاسِ فِي جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ بِخِلَافِ الْمُعْتَادِ مِنْ أَمْرَاضِ النَّاسِ، وَيَكُونُ مَرَضُهُمْ وَاحِدًا بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْأَوْقَاتِ([2]).
يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا النَّقْلِ أَنَّ الطَّاعُونَ عِنْدَ الْأَكْثَرِ هُوَ الْوَبَاءُ كَثِيرُ الْمَوْتِ، الْمُفْسِدُ لِلْأَمْزِجَةِ وَالْأَبْدَانِ، وَهَذَا يَصْدُقُ عَلَى وَبَاءِ كُورُونَا؛ فَإِنَّهُ سَرِيعُ الِانْتِشَارِ، كَثِيرُ الْمَوْتِ، مُفْسِدٌ لِلْأَمْزِجَةِ، وَيُؤَكِّدُ هَذَهِ الْمُقَارَبَةَ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ: فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ: (وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ)([3]).
وَقَدْ صَرَفَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْجِنَّ فِي الْحَدِيثِ إِلَى الْفَيْرُوسَاتِ، وَأَنْوَاعِ الْبَكْتِيريَا؛ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْجِنَّ هُوَ الشَّيْءُ الْمُسْتَتِرُ الَّذِي لَا يُرَى بِعَيْنِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى الْفَيْرُوسَاتِ، وَأَنْوَاعِ الْبَكْتِيريَا؛ فَإِنَّها غَيْرُ مُشَاهَدَةٍ، وَتَجْتَاحُ بَدَنَ الْإِنْسَانِ بِالْوَخْزِ بِوَسَائِطَ أَوْ بِدُونِهَا.
الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: (الطَّاعُونُ آيَةُ الرِّجْزِ) أَيْ: عَلَامَةُ الْعَذَابِ الْمُزْعِجِ الْمُزَلْزِلِ، وَقَالُوا: عَلَامَةُ الْعَذَابِ الْفَظِيعِ([4]).
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: (الطَّاعُونُ رِجْسٌ)([5])، أَيْ: الْمَرَضُ الْمُؤَدِّي إِلَى الْعَذَابِ الْمُؤْلِمِ الشَّدِيدِ([6]).
الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: (فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ، فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ) يَدُلُّ بِإِشَارَتِهِ أَنَّ الْعَدْوَى حَقِيقَةٌ وَلَيْسَتْ وَهْمَاً، وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِلنَّهْيِ عَنِ الدُّخُولِ عَلَى أَهْلِ الْمَرَضِ فَائِدَةٌ.
وَفِيهِ: أَنَّ بِنَاءَ النَّهْيِ عَلَى مُجَرَّدِ السَّمَاعِ بِوُقُوعِ الْوَبَاءِ فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي مُرَاعَاةِ أَسْبَابِ الْوِقَايَةِ وَالْعَافِيَةِ، وَالنَّهْيُ هُنَا لِلتَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْمُصِحِّ عَلَى أَهْلِ الْوَبَاءِ الْمُعْدِي مَظِنَّةُ ضَرَرِ النَّفْسِ أَوْ هَلَاكِهَا.
وَقَدْ مَنَعَتْ أَدِلَّةُ الْوَحْيِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ضَرَرَ النَّفْسِ، وَالْأَسْبَابَ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَيْهَ، وَلَوْ بِالظَّنِّ فَضْلَاً عَنِ الْقَطْعِ، مِنْ تِلْكُمُ الْأَدِلَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النِّسَاءُ:29]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [الْبَقَرَةُ:195].
وَأَمَرَتْ بِحِفْظِهَا، وَمُرَاعَاةِ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى ذَلِكَ، مِنْ أَبْلَغِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ: أَكْلُ الْحَرَامِ فِي حَالِ الاِضْطِرَارِ إِذَا عَدِمَ الْحَلَالُ؛ حِفْظَاً لِلنَّفْسِ، وَاسْتِبْقَاءً لِلْحَيَاةِ؛ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الْبَقَرَةُ: 173].
فَإِذَا قَدِرَ الْمَرْءُ أَنْ يُدْرِكَ السَّلَامَةَ بِالْفِرَارِ مِنَ الْوَبَاءِ فَلْيَفْعَلْ، فَإِنَّ الْفِرَارَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ مَأْمُورٌ بِهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ)([7])، وَلَمْ يَذْكِرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَسَدَ اعْتِبَاطَاً -حَاشَاهُ-؛ بَلْ لِوَجْهِ مُقَارَبَةٍ بَيْنَ شَرِّ الْأَسَدِ، وَشَرِّ الْجُذَامِ الَّذِي يَلْحَقُ بِهِ كُلُّ وَبَاءٍ مُعْدٍ.
الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: (وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلَا تَفِرُّوا مِنْهُ) فِيهِ دَلَالَةٌ بِالْلَّازِمِ الْإِشَارِيِّ عَلَى حَقِيقَةِ الْعَدْوَى، وَالنَّهْيِ عَنْ تَسْبِيبِهَا، وَفِيهِ نَهْيٌ عَنِ الْفِرَارِ مِنَ الْأَرْضِ الْمَوْبُوءَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْفَارَّ بِتَعْجِيلِ بُرْءٍ، لَكِنَّهُ مَظِنَّةُ نَقْلِ الْعَدْوَى لِغَيْرِهِ وَالْإِضْرَارِ بِهِمْ.
وَالنَّهْيُ مَصْرُوفٌ لِلتَّحْرِيمِ؛ إِعْمَالَاً لَهُ فِي حَقِيقَةِ مَعْنَاهُ، سِيَّمَا أَنَّ الْفِعْلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَظِنَّةُ ضَرَرِ النَّفْسِ أَوْ هَلَاكِهَا، وَقَدْ جَاءَتْ أَدِلَّةُ الْوَحْيِ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَتُجَرِّمُهُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [الْأَحْزَابُ: 58].
وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَضَى أَنْ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»([8]).
فَيَا أَيُّهَا الْأَهْلُ الْكُرَمَاءُ: مَا أَحْسَنَ أَنْ تَقْبَلُوا هَذَا التَّوْجِيهَ النَّبَوِيَّ وَتُمَسِّكُوا بِهِ فِي مُرَاعَاةِ أَسْبَابِ الْوِقَايَةِ، فَالْمَرِيضُ لَا يُوْرِدُ عَلَى الْمُصِحِّ؛ لِئَلَّا يَكُونَ سَبَبَاً فِي إِيذَاءِ غَيْرِهِ، مَعَ مُرَاعَاةِ أَسْبَابِ الْعَافِيَةِ لِنَفْسِهِ مِنْ قَبُولِ نُصْحِ الْأَطِبَّاءِ، وَالدُّعَاءِ بِالْمَأْثُورِ مِنْ أَدْعِيَةِ الشِّفَاءِ وَكَشْفِ الْبَلَاءِ، وَالسَّلِيمُ؛ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْمَرِيضِ؛ مُرَاعَاةً لِسَلَامَةِ نَفْسِهِ، وَمَنْ وَرَاءَهُ مِنَ الْأَهْلِ وَالْأَصْحَابِ.
وَالْحَمْدُ للهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى مُحَمَّدٍ.
([1])أخرجه: مسلم/صحيحه (2218)(4/ 1737).
([2]) انظر: ابن حجر/فتح الباري(10/ 180).
([3]) صحيح، أخرجه: أحمد/مسنده(19528)(32/ 293).
([4]) السمين الحلبي/عمدة الحفاظ(2/77).
([5]) أخرجه: البخاري/صحيحه(3473)(4/ 175).
([6]) الأصفهاني/المفردات(ص342).
([7]) صحيح، أخرجه: أحمد/مسنده(9722)(15/ 449).
([8]) صحيح، أخرجه: ابن ماجه/سننه(2340)(2/ 784).