قبل مئة وثلاثة أعوام، بدأت تخطّ سطور حكاية الشعب الفلسطيني ورواية مأساتها على مدار قرن، وهبت فيها بريطانيا فلسطين للكيان الإسرائيلي، لينتهي المطاف بمشاركة عربية لهذه التنازلات بعد هذه السنوات الطوال.
1917، صكّ وزير الخارجية البريطاني آنذاك آرثر بلفور، وعدّا بإقامة وطن يهودي على أرض فلسطينية إبان اندلاع الحرب العالمية الأولى.
لم يحدد الاحتلال البريطاني آنذاك حدود الوطن المزعوم للكيان، وبقيت حدوده ما بلغت أطماعه لهذه اللحظة، لكنه فتح شهية الكيان لبدء الرحلات الاستعمارية والاستيلاء على الأراضي، تزامنا مع حرب شرسة قادتها العصابات البريطانية بحق قيادة الثورة الفلسطينية آنذاك.
واستمر الاحتلال البريطاني بإعدام القيادات الفلسطينية وابعادها وصولا لمرحلة اللجوء للكفاح المسلح فلسطينيا عبر القائد الشيخ عز الدين القسام، السوري القادم من جبلة السورية والفار من حكم الإعدام الفرنسي.
** سطور الحكاية!
في أحراش يعبد بجنين القسام خطّت سطور مرحلة جديدة من الكفاح بعد عقدين تقريبا، كانت بمنزلة جرس الإنذار لبداية هجمة عسكرية صهيونية على القرى الفلسطينية.
وبعد أقل من عقد واحد بدأ مسلسل النكبة الأشرس في تاريخ البشرية هجرّ على إثره قرابة 9 ملايين فلسطيني، هم اليوم في عتاد اللاجئين والمهجرين حول العالم.
مجازر وثقتها المنظمات الحقوقية زادت عن 350 مذبحة راح ضحيتها آنذاك قرابة 250 ألف فلسطيني في اعدامات جماعية نفذت بعديد القرى والبلدات.
واضطر على وقع المجازر أن يخرج الفلسطينيون من ديارهم، لفتح الطريق في الوقت ذاته للجيوش العريبة للتحرير، لكنها سرعان ما وقعت على خط الهدنة وانتهى المطاف باحتلال فلسطين.
بقي الاحتلال يتمدد لسنوات طويلة فتح فيها شهيته على حدود الدول العربية، بعدما شنّ عدوانا مشتركا مع بريطانيا وفرنسا على مصر وسوريا فيما عرف بالعدوان الثلاثي.
انتهى المطاف بحرب 67 استولت فيها العصابات الصهيونية على مناطق جغرافية واسعة كانت تخضع لسيطرة الأردن ومصر وسوريا، استكملت خلالها احتلال فلسطين كاملة من البحر للنهر.
وأتاحت الحروب المتتالية لرسم صورة اسطورية عن صلابة الجيش الذي لا يقهر، وعن ضعف عربي لا يوصف، سرعان ما فتحت الطريق أمام انطلاق ثورة فلسطينية داخلية شكلت شرارة لاستعادة الدور الفلسطيني في الدفاع عن قضيته.
** مخاض الولادة!
ومع انطلاق الثورة الفلسطينية أوائل ستينيات القرن الماضي، بدأت تنفذ عمليات بطولية متقدمة على خطوط العدو، أوقعت ضربات موجعة دفعته للتقدم إلى الأردن، ليحصد أول هزائمه في معركة الكرامة.
ثم تبعها استمرار المعارك بالتزامن مع حرب مصرية لاستعادة سيناء، لكنه أعقبت بتتويج أول اتفاق سلام عربي إسرائيلي عام 1978م فيما عرب بكامب ديفيد.
اثار الاتفاق صخبا عربيا رسميا وشعبيا أدى لمقاطعة القاهرة لسنوات، قبل أن يغتال الرئيس المصري السابق أنور السادات، ويتولى خلفه الرئيس حسني مبارك، وتبدأ في عهده تحولات السياسية العربية الكبرى.
مرّ عقد على توقيع الاتفاق المصري، شهدت فيه المنطقة صراعات دامية، سبقت توقيع الاتفاق بخروج قوات الثورة الفلسطينية من الساحة الأردنية التي تشكل الحدود الأكبر مع الكيان، ثم الخروج من سوريا، وصولا للاستقرار في لبنان.
وبعيد توقيع كامب ديفيد المصرية، شهدت الساحة اللبنانية حالة اقتتال داخلي وقع على إثره مجازر عديدة بحق الفلسطينيين، كان افظعها مجزرة صبرا وشاتيلا، وصولا لدخول الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982م.
وبعيد ضربات عديدة اضطرت قيادة منظمة التحرير لمغادرة الساحة اللبنانية إلى تونس، لتخرج بذلك من آخر مناطق الطوق المحيطة بفلسطين.
التحولات السياسية!
مع بداية عام 1974 أقرت منظمة التحرير برنامجها السياسي المرحلي أقرت فيه ما عرف بـبرنامج النقاط العشر.
عدّ المراقبون هذا البرنامج بداية لرسم المسار السياسي والتراجع عن تحقيق الأهداف الكلية الكبرى.
مع خروج المنظمة من بيروت، برز التحول السياسي الآخر لدى المنظمة فيما عرف آنذاك بوثيقة الاستقلال التي أعلنت من الجزائر عام 1988م.
في هذا التوقيت، على النقيض تماما، كانت الأراضي الفلسطينية في الداخل المحتل، تغلي على نار هادئة، سرعان ما فجرّت الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي عرفت بانتفاضة المساجد عام 1987م.
ومهدت الانتفاضة لصعود التيار الإسلامي بقيادة حركة حماس، إلى جانب بروز الجهاد الإسلامي، لتصبح أبرز وأهم المكونات السياسية والعسكرية في الساحة الفلسطينية.
وخاضت الحركة مجموعة من العمليات النوعية المؤلمة ضد الكيان، ردا على جرائمه، تمثلت في أسر عدد من جنوده وقتل مجموعة من مستوطنيه، تمثلت مراحلها بمحطة عماد عقل 1992 وتمثلت بعمليات قتل عن مسافة صفر، ثم تلاه مرحلة يحيى عياش التي شهدت تنفيذ عمليات استشهادية مؤلمة عام 1994.
بين مشروعين!
ومع مرور العام 1994 كانت اللقاءات السرية بين وفود المنظمة والكيان، قد قادت لنضوج اتفاق عرف لاحقا باتفاق السلام المرحلي "أوسلو"، الذي أعطى السلطة قيادة شكلية من غزة لاريحا.
وشكل الاتفاق بداية للانقضاض على مشروع المقاومة، عبر ما عرف بـ"التنسيق الأمني"، توقف خلاله مسار المشروع لسنوات عديدة.
ورغم المعاهدة الموقعة، بعد عامين فقط من وصول السلطة، واجراء الانتخابات واختيار ياسر عرفات رئيسا لها، شهدت الأراضي الفلسطينية ما عرف بهبة النفق على اكتشاف نفق أسفل المسجد الأقصى.
ثم بعد عامين فقط وعلى إثر دخول رئيس وزراء الكيان وجنراله الأكثر اجراما ارائيل شارون إلى ساحات الأقصى، اندلعت الانتفاضة الثانية التي استمرت لخمسة سنوات، انتهت على اثر اختيار محمود عباس رئيسا للسلطة.
شهدت سنوات الانتفاضة تحولات عسكرية نوعية، دفعت الاحتلال للخروج من قطاع غزة والاندحار عن أراضيه، إلى جانب تحولات سياسية أعقبت محاصرة ياسر عرفات في مقره، ثم بعيد ذلك اغتياله بالسم، وترأس عباس السلطة خلفا عنه بعد اختياره لأشهر رئيسا للوزراء بضغط امريكي.
وبعد عام واحد من اختياره شهدت فلسطين زلزالا سياسيا بفوز كاسح لحركة حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، نتج عنه عصيان أمني من عناصر السلطة، قاد في المحصلة لحسم عسكري قادته الأجهزة الأمنية بالقطاع، نتج عنه انقسام سياسي استمر منذ ذلك الوقت حتى كتابة سطور هذا التقرير.
وخلال سنوات الانقسام شنّ الاحتلال 4 حروب متتالية على القطاع، إلى جوار حصار مطبق على كل مناحي الحياة السياسية، انتهت باعتراف امريكي بالقدس عاصمة للكيان، جوبه بحراك شعبي عارم عرف بمسيرات العودة الكبرى.
وبعد هذه الحقب والعقود والتحولات، قاد المشهد السياسي مجموعة من الزعماء العرب في محور عرف عن نفسه بمحور "الاعتدال" تحولت فيه القضية الفلسطينية من قضية العرب المركزية لقضية هامشية تعرضت خلالها لصنوف مختلفة من الشتم على لسان كتاب عرب في هذه الدول.
وأخيرا أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن مجموعة من الدول العربية التي توصلت لاتفاق سلام وتطبيع مع الكيان أبرزها الامارات والبحرين والسودان، فيما يكتنف الخوف أن تلحق دول أخرى في ركبها.