قائد الطوفان قائد الطوفان

مقال: أحمد الجعبري.. سلاما في الخالدين

محمد ابراهيم المدهون
محمد ابراهيم المدهون

محمد ابراهيم المدهون

عندما يتمنطق الرجل بالشهادة عنواناً ويحاصر الموت.. يبصق في وجه السجان.. يتجاوز حدود المكان.. تعلم أن لوناً نادراً من أولئك الأفذاذ الذين صرخوا في وجه فرطقات التقوقع والهزيمة يشمخ أمامك.

أحمد الجعبري أعلن استشهاده قبل أن يستشهد، وأغلق أمام نفسه كل الخيارات، ولم يبق إلا خيار الاستشهاد.. معلم تلك الشخصية المجاهدة في كل الميادين الصبورة على تنوع المحن والابتلاءات، يردد أمام الجميع دوماً: قد أعطينا البيعة لله.

لا يعرف الخوف طريقاً إلى قلبه.. تبدلت الأيام والأشخاص.. تغير الزمان وتقلَّبت قلوب.. وبقي يدافع عن خياره الأوحد.. ويحاصر الهزيمة.. يبقيها في زاوية الوهم.. ويصفق الباب مقفلاً خلفه همهمات العبث وترانيم التراجع.. وارتقى صهوة المجد ودلف من بوابة الشهادة والاصطفاء الذي يقدره الله لأوليائه الصالحين..

ارتقى بعد أن غدا علماً من أعلام حماس والقسام والجهاد والمقاومة, وشجرة وارفة الظلال يلتجأ إليها المجاهدون، فيجدون في ظلها سلوى الغربة، وحرارة الثأر, وصيانة البيعة.. فلم يكن يقنع بأقل من العمل الدائم الدائب.. وها هو يتصاعد، ويحلق في سماء الوطن المسجى في اغتراب وألم، وها هي غزة التي عشقها تنهض شامخة تعبر بصبر حدود اليأس ليصل فجرها إلى تل الربيع بعد أن خطط الجمع المنهزم أن تحترق وحيدة بين الموت والحصار والحزن والأسلاك الشائكة.

لك وحدك يركع المجد أيها السيد العظيم.. لك يطأطئ الجمع رأسه خجلاً وحياءً.. منذ اليوم الأول والميلاد الأعظم، أقسمت العهد والبيعة على المضي في طريق ذات الشوكة.. وحملت اللواء.. ورفعت الراية.. قاتلت بالكلمة والحجر والخنجر والسكين والمولوتوف والمسدس والرشاش والتفجير والتصنيع ومسك الجراح..

أصبت وفقدت ولدك وشقيقك وعددا من أقربائك وقُصف بيتك.. وواصلت رغم ذلك درب الجهاد ومسيرة العلم و خدمة أبناء الشهداء وطريق العمل المجتمعي.. لم تترك وسيلة.. ولم تدع للقاعدين عذراً.. فطرق الجهاد والاستشهاد مفتوحة أبوابها ولكن أين الرجال أصحاب النية الصادقة والعزيمة، لم تتقطع بك السبل وعينك على القدس دوماً, وإثر استشهاد رفقاء الدرب وتبقى على العهد والبيعة, فكنت كعادتك عملاقاً.

وغدا كل بني صهيون يتلفتون حولهم.. تنقبض قلوبهم.. تشخص أبصارهم لهول رؤياك أو ذكر اسمك.. وقناعتك دوماً كانت أن يهود أشد خطراً وأكثر بلاءً، تجيب بلغة الواثق العنيد (إلى لقاء ربي أمضي)، كنت دوماً أكبر من الأغواء والإغراء.. استمروا في البحث والتنقيب عن الشبح الرهيب.. فحاصرتهم وقذفت كرة اللهب في أحضانهم، وبددت وهمهم وكان وفاؤك وفاء الأحرار فتراجعوا خائفين وسقطوا مذعورين، وأيقنوا أنه لا سبيل إلى حصار الرجال الشهداء, لأنهم الجبال الشامخات عشقت الموت واحتضنته، وقذفته ناراً في وجه المحتل الغاصب.

جئت على قدر.. جئت على ميعاد.. ميلادٍ جديدٍ.. ميلادٍ عظيمٍ.. فما أعظم حياة الجهاد, وما أقدس لغة الشهادة، كنت دوماً تنتظر لحظة التفجير.. كنت تأبى الموت الطبيعي.. وانفجرت في لحظة هدوء.. أيقظ دوي انفجارك مساحات العمل.. وأعاد الفكرة بعد أن ذهبت السكرة, واستيقظ الجمع.. فإذا السراب يلف الواهمين بالسلام ومسيرته الخائبة الخاسرة، وعيناك تحاصرهم.. وقطع لحمك تقذفهم, ودمك النازف يكتب على كل الأزقة النور والبرهان على صدق الطريق وحسن التوجه لله رب العالمين، وأبى أخوك الحر أبو حامد رفيق الشوط الأخير إلاّ الرحيل معك، فحزم متاعه، وشد خطاه للحاق بالركب.. إنه الفوز..

إنها الجنة وما أجملها من رحلة.. ويأبى المخلصون إلاّ اللحاق بركب العظماء، إنه الجهاد والاستشهاد... شفاء الصدور... إنه الشهيد أحمد الجعبري وإخوانه إشراقة أمل على طريق التحرير.. فسلاماً لك.. سلاماً لك أيها المتفجر ثورة وناراً وبركاناً.. سلاماً لك وقد كتبت وإخوانك تاريخاً.. سلاماً لك وأنت تقدم الأنموذج.. سلاماً لك وأنت تمنحنا الحياة..

وهكذا أومأ أبو محمد برأسه وأشار على بعد بعلامة النصر.. فها هو الطريق الذي شقه يتواصل.. وها هي أحلى الأنغام تدوي في كل مكان من تل الربيع السليبة حين تدكها M75, وهو يستلقي بعيداً هناك, وإلى جواره ثلة الشهداء الكرام الذين سبقوه.. ويومئ بابتسامة رقيقة نحو الإمام الياسين والدكتور عبد العزيز الذي أحب وأن يقول "لم أتأخر عليكما", وينبئهما صدق الطريق وتواصل العطاء اللامحدود. يعلمهما أن فلسطين كما هي تعشق التواصل الدامي ولا يزعجها برد الانقطاع عن المجاهدين الأفذاذ.. يعلمهما أنه ما ضاع الاتجاه وما فقدنا البوصلة.. أومأ أبو محمد برأسه ونام.

سادتي أحمد و محمد وكافة الشهداء, سادتي يا أرباب الشهادة.. سنذكركم لأنكم زرعتم فينا البقاء ولأنكم رسمتم فوهة النصر على امتداد "خارطة الوطن"، سنظل نلمحكم لأن أنفاسكم ممزوجة بعطر أقحواننا... وخضرة أرواحكم من خضرة زيتوننا.. وأصواتكم خفقات أفئدتنا.. سنذكركم لأنكم ستهبون مع نسائم الوطن، وستورق ذكراكم على فصوله الأربعة.. وسيتمدد ظل أجسادكم الطاهرة على شواطئ أرواحنا، فقد درجت أحلامنا مع شذا بطولاتكم خطوتها الأولى، بعد أن ظلت مختبئة في مناماتها وهي تطل على استحياء أمـداً طويلاً.

سادتي.. يا سادة الوفاء سنستلهم منكم ما نشاء، سنعيش على ومضات جهادكم، وسنقطف من أشجاركم عشر وصايا لأطفالنا.. سنأخذ منكم ما يجعلنا أقوى وأبقى.. وسننقش أسماءكم الأولى على صدور صغارنا.. سنقص عليهم روائعكم مع طالع كل شمس، حتى لا يخبو حنين الشهادة في فطرتهم، وحتى إذا ما كبروا وسألوا: أين ألوية القسام؟ ومن أين تسلل سيف الله؟ وأين شارات حطين وجالوت واليرموك؟!

نجيبهم دونكم وجه الأرض ومعطفه الأصيل.. دونكم الواثقون كأسلافهم أصحاب القبور الثائرة رغم الرحيل, دونكم أحمد ومحمد وأحمد ياسين وإبراهيم وصلاح وإسماعيل وعبد العزيز ونزار وسعيد.. دونكم الجمالين وعبد الباسط والطوباسي ... دونكم وفاء ودارين وآيات.. دونكم عاطف ورائد ويحيى وعماد ومحمود.. دونكم.. ودونكم.. ودونكم.. دونكم كل هذه الأجساد المنثورة في قلب مدائننا.. في خصر ساحلنا، في كل دروب الوطن، يحرسون قباب الأقصى ويشهرون إيمانهم في وجه الظلم والطغيان.

دونكم منارات الضياء الذي لا يتوقف ولا ينكسر.. دونكم الصاعدون إلى الأعالي على ممرات نورانية كأنها جبال من خيوط الفجر تحرسها أسراب الطيور الخضر حتى مشارف الجنة... هناك حيث يؤذن للواقفين ببابها أدخلوها خالدين.. ذلك هو الفوز العظيم.

دونكم الذين لا يعرفهم أحد. فسلام عليكم.. سلام أيتها الأقمار المنيرة.. سلام يا حلة الوطن البهية.. وبصمة الروح الثائرة.. سلام أيها الأحياء في ريعان الشهادة.

سلام سيدي أبا محمد فى الخالدين..

البث المباشر