مُرّة هذه الفترة التي يعيشها سعيد، كفنجان قهوة دون سكر أو أشد مرارة، لا أمان له مع "كورونا" على مفترق طرق!
تستأنس الهموم بعضها ببعض في قلب سعيد لولو 33 عامًا، الذي اختار لنفسه لقب "الجنرال"،
"جنرال" عاطل عن العمل، لا دخل ثابت له، ولا عائلة، "جنرال" أمام "كشك" قهوة كتب عليه "كشك الخريجين"!
كان الرضا سيد الموقف في حياة سعيد رغم كل شيء، لديه وسادة وفرشة صغيرة ينام عليها خلف عربته، وفي الصباح يعد المشروبات، إلى أن جاءت "كورونا" كشبح ابتلع حلمه بغمضة عين!
لا مكان لفنجان قهوته التي كانت تعدل مزاج المارة وسائقي المركبات، وكانت له مصدر رزقٍ يحلم أن يؤسس من رغوتها بيتًا صغيرًا، عم الوباء والإغلاق معًا!
هواجس وديون!
لشهر كامل بات صباح سعيد باهتًا، لقد فرض منع التجول على أرجاء المدينة نهاية آب الماضي فور إعلان وزارة الصحة بغزة عن وجود إصابات بين المواطنين بفايروس كوفيد_19، فغاب خليط البُن مع ابتسامته الصباحية!
يشعر بائع القهوة بالقلق على مصير رزقه، حتى أن أحلامه تتبخر بشكل تدريجي، قائلًا:" بعد انتشار الفيروس داخل مدينة غزة، وإصدار قرار بمنع التجول، شعرت بضيق في صدري، ماذا أفعل دون هذا الكشك؟!"
سعيد الذي وسع مشروعه الصغير قبل أسابيع فقط من الجائحة، قام بشراء ثلاجة صغيرة وتزويد عربته بالمشروبات الباردة، إضافة إلى بدء عمله في إعداد الشطائر الصباحية مع بدء العام الدراسي، يعلق:" تكبدت العديد من الديون لتوسيع عربتي، لم أعلم أن الإغلاق سيكون مصير كل شيء، أخشى من الاعتقال لعدم تمكني من السداد!"
علميًا يؤكد المختصون النفسيون أن قلة العمل تهيئ صاحبها للإصابة بالتوتر والاكتئاب، فماذا عن عامل فقد قوت يومه، ومهدد بتكبيل حريته؟!
عبر أسلاك الهاتف وصلتنا نبرة صوته، حيث كشف لنا عن قلقه من آثار العزل الاجتماعي والصعوبات الاقتصادية الناجمة عن الأزمة، وقال:" كوابيس تتناوب يوميا على منامي، لشهر كامل منعت من العمل"، وتابع بعد تنهيدة طويلة: "في المرة الأولى احتجز رجال الشرطة بطاقة هويتي، وفي المرة الثانية حجزتني 24 ساعة في مركز التوقيف".
إجراءات الشرطة تجاه هذا البائع كان سببها وجوده في الشارع بعد ساعات فرض منع التجوال، في حين كان لسعيد أسبابه الخاصة التي تجهلها الجهات الرسمية، حيث اعتاد على النوم في باحة مغسلة سيارات خلف "كشك" قهوته، لتوفير أجرة سيارة الأجرة طيلة الأسبوع، ويعود للمنزل في عطلة نهاية الأسبوع فقط!
زاد الشعور لديه بعدم الأمان المالي، وخوفه من الفقر، أو حتى السجن لعدم سداد دينه، والهاجس الأكبر من سيعيل والدته وأشقاءه!
حتى أن وسادته التي كان يتكئ عليها ليلًا ابتلعتها "كورونا" هي الأخرى، وبات مضطرًا للعودة لبيت عائلته شمال قطاع غزة بشكل يومي، دون تمكنه من توفير شيكل واحد فقط!
مزاج وأنصاف أحلام!
يشتاق هذا الشاب اليوم لصنع القهوة لمجموعة من العمال قبل توجههم لعملهم داخل السوق، يشتاق لوجوه شبه نائمة، سرعان ما ترتشف من قهوته حتى يسري النشاط في ملامحها!
ورغم بدء العودة بشكل متقطع للعمل في بعض المناطق المصنفة بالخضراء وفق وزارة الداخلية وبدء إجراءات التعايش التي أعلنت عنها داخل غزة، إلا أن سعيد بات الآن على ذاك المفترق بأجر غير ثابت، وأنصاف أحلام كما أنصاف الحياة في مدينته!
كان من المفترض أن يمسي سعيد إعلاميًا، يكتب الآن هذه السطور لربما بدلًا مني، فهو خريج علاقات عامة وإعلام من جامعة الأزهر بغزة عام 2007، حال الانقسام الفلسطيني والحصار على قطاع غزة من التحاقه بمهنة البحث عن المتاعب، فوجدته المتاعب بدلًا من أن يبحث عنها!
يخبرنا أنه تطوع في مؤسسات المجتمع المدني، وأنه أضرب عن الطعام معتصمًا في ساحة الجندي المجهول عام 2016 مطالبًا الحكومة بوظيفة، ثم علق على مسيرته بعد التخرج:" مبدأي الدائم كان "التشغيل العادل للخريجين"، يضحك من فرط وجعه:" لا عدل ولا تشغيل وكمان كورونا!"
مزاج سيء لسعيد تولد بعد عزلة الحجر المنزلي، فلم يعد فنجان قهوة كفيلًا بتعديله، فالوضع منذ تفشي الفيروس يشتت تفكيره!
"لم يؤهلني هذا الكشك للزواج أو تكوين عائلة، أتمنى لو أنني أصبح أبًا"، يصمت فجأة، ثم يختم حديثه:" أحلامنا هي حقوقنا، سعيد يتمنى أن يصبح سعيدًا!"