على المنصة الربيعية في قاعة مطلة على شاطئ البحر، جلست إيمان أبو صبحة واقفة، وقد علمتنا ما معنى الجلوس وقوفا على مقعد متحرك، تحمل دواليبه قصة أربعا وعشرين عاما من التحديات.
خلف إيمان على المسرح وعبر شاشة عرض كبيرة، تتابعت عشرات الصور لتعرض قصة حياتها منذ الولادة، وبين صورة وأخرى كانت إيمان تتكلم لتصف ألما مشتركا بين عظامها الرقيقة ومشاعر والديها المليئة بالتحدي والإصرار لتكون ما عليه الآن.
ولدت في العشرين من ديسمبر لعام 86، طفلة بجسد مختلف، وعظام رقيقة صغيرة، أصغر من اللازم، جسد نحيل يحمل تشوها ما، وأطراف قصيرة، فبهتت الممرضة التي حملتها لوالديها وقالت لوالدها دون خجل: "أجتك بنت مشوهة، والأفضل أنها تموت، ما تخلي أمها ترضعها".
وبين وصية الممرضة اليائسة القاسية ودموع الأب، كانت هناك رحمة من السماء ألهمها الله له فرد عليها: "إن الله أرحم بها مني ومنك".
تقول إيمان: "أبي كان قويا، وأمي كانت تبكي، ولم يكن بكاؤها ضعفا، ولا اعتراضا على قضاء الله، وإنما خوفا عليّ من عدم القدرة على الصمود، عدم القدرة على مواصلة الحياة، أو على تحمل كل تلك الأعباء وحدي".
لكن إيمان كان لديها ذلك التحدي، الذي يتمتع به قلب الأطفال، ووالدها كان لديه الإصرار على العطاء، عُرضت على كثير من الأطباء، وربما كانت حقل تجارب للكثيرين منهم، وكل منهم يقدم فتواه على مسمع والدها، فتفاوتت الفتوى بين "لن تعيش هذه الطفلة كثيرا، لو عاشت ستكون بجسد مشوه لن تكمل حياتها حتى العشرين".
وحده طبيب مقدسي، بعث الأمل في نفس الأب المكلوم، وقال له: "ابنتك تحمل عقلا واعيا وذكاء كبيرا".
ثم كبرت إيمان، وكانت معاناتها لا تقتصر على نقص النمو في أطرافها وعدم قدرتها على السير إلا باستخدام الكرسي المتحرك، ولكن عظامها أيضا كانت هشة معرضة للكسر في أية لحظة.
تقول إيمان: "كنت أنظر إلى ملابس العيد، لا أستطيع ارتداءها بسهولة، لأن بعض الملابس لا تناسبني، ويمكن بأي حركة بسيطة أثناء ارتداءي لها أن تكسر عظامي، وهكذا عشت قليلة الحركة، لا أستطيع اللعب مع أقراني خوفا من التهشم.
قضت إيمان طفولتها تحلم بارتداء ما ترغب من ملابس، دون أن يكون لكل قطعة شروطها التي تناسب الجسد الضعيف، وأن تلعب كما أقرانها: "قضيت طفولتي خلف الجدران، في الظل، أتفرج من بعيد على الأصحاء من عمري وهم يعبرون طريق حياتهم بدون أي متاعب".
وجاء دور المدرسة، وهنا رفضت معظم مدارس وكالة الغوث قبول إيمان، فأخذها والدها إلى وزير التربية والتعليم ليقنعه أن إيمان تملك عقلا مختلفا، وبعد اختبار قدراتها من الوزير نفسه، دخلت المدرسة بموافقة خطية منه.
لم تنته القصة هنا، بل بقيت حالة إيمان وضعف عظامها عائقا آخر، في ذهابها وإيابها، ورفضت المدرسة تحمل تبعات وضعها الصحي، فحولتها للدراسة المنزلية، وهنا تسلل اليأس إلى قلب الجسد الصغير.
تتابع أبو صبحة: "تركت المدرسة تسع سنوات، بعد أن درست فيها خمس سنوات، وأصابني اليأس، حتى أن الكرسي المتحرك لم يعد يعمل لقلة استخدامه بسبب قلة خروجي من المنزل".
ولكن في لحظة ما، وحينما يطبق اليأس على أنفاسنا، نسأل القلب إلى متى سأقبل الهزيمة، ورفعت يديها إلى الله تتضرع بأن يبني مسجدا بجانب البيت ليتسنى لها الذهاب والصلاة وقراءة القرآن في المسجد والتعرف على فتيات من عمرها ليقتل اليأس الذي بدأ ينخر في قلبها.
وكأن باب السماء كان مفتوحا، بني المسجد، والتحقت إيمان بصفوف الطلبة الحافظين حتى أتمت حفظ كتاب الله في سنتين، وتوالت بعدها النجاحات تلو النجاحات، حتى أصبحت موظفة في وزارة الأوقاف ومحفظة للقرآن الكريم.
وبين كل تلك النجاحات كانت يد أمها وأبيها، تحملها من مكان لآخر، تدفعها دفعا إلى الحياة لتعيش كل تفاصيلها، وتشرب منها شربة لا تصل بقلب الصبية إلى اليأس، حتى تحولت الفتاة الجالسة على مقعد متحرك إلى فتاة ملهمة، لأنها قررت في لحظة ما: "أنها لن تُهزم مرة أخرى".