ليس مستغرباً أن يصف الرئيس السابق للشعبة السياسية والعسكرية في وزارة جيش الاحتلال الجنرال عاموس جلعاد التنسيق الأمني بين السلطة و"إسرائيل" بالكنز الاستراتيجي الذي يجب المحافظة عليه، بالنظر للخدمات الأمنية الكبيرة التي قدمتها السلطة للاحتلال في هذا الجانب. التنسيق شمل منع عمليات ضد الاحتلال والكشف عن خلايا المقاومة، والأخطر تسليم المقاومين الفلسطينيين، وهذه سلسلة بدأت منذ نشأت السلطة ولم تتوقف حتى يومنا هذا.
تبلورت فكرة التنسيق الأمني في اتفاق طابا أو ما يُعرَف باسم "اتفاقية أوسلو 2" عام 1995، والتي نصّت على أنه "باستثناء سلاح وعتاد وأجهزة الشرطة الفلسطينية في الملحق الأول وتلك الخاصة بالقوات العسكرية الإسرائيلية، لا يمكن لأي منظمة أو مجموعة أو أفراد في الضفة الغربية وقطاع غزة أن يصنع أو يبيع أو يحوز أو يملك أو يورد أو يحضر سلاح أو عتاد ومتفجرات أو ملح البارود أو أي أجهزة مرتبطة بذلك".
وكانت هذه الأرضية التي بدأت تتشكل وفقها عقيدة الأجهزة الأمنية للسلطة، والتي باتت فعلياً إحدى أدوات المنظومة الأمنية للاحتلال، ويمكن القول إنها تخضع لسياسة "نيفي يعكوب" شمال القدس المقر الرئيسي للقيادة الوسطى في جيش الاحتلال المسؤولة عن العمليات العسكرية في الضفة وجميع الوحدات والفرق التي تقع في الضفة والقدس.
مئات المقاومين والخلايا اكتشفتها السلطة وجرى تسليم أعضائها للاحتلال، وما كانت تنكره السلطة بالأمس باتت تتباهى به في عهد رئيسها محمود عباس الذي وصف التنسيق الأمني بالمقدس وقال "التنسيق سيستمر سواء اتفقنا أو اختلفنا مع "إسرائيل".
أبرز المحطات التي مارست فيها السلطة درجات غير مسبوقة في حفظ أمن الاحتلال كانت تسليم المقاومين وذلك منذ السنوات الأولى لنشأتها ففي العام 1996 اعتقلت قوات الاحتلال حسن سلامة بعد مطاردة طويلة بمدينة الخليل وحكم عليه بالسجن المؤبد 48 مرة، بتهمة الانتماء إلى حركة حماس وجناحها العسكري كتائب القسام، بعدما أبلغ جهاز الأمن الوقائي الاحتلال عن مكان المستشفى الذي كان يخضع فيه للعلاج من إصابة سابقة.
وقد اتهم سلامة في كتابه الثأر المقدس الأمن الوقائي برئاسة جبريل الرجوب في حينه بأن سبب تسليمه للاحتلال.
بعد عام واحد على تسليم سلامة وفي خريف عام 1997 شهدت الأراضي الفلسطينية أخطر عملية تسليم للمقاومين، فقد اعتقل الوقائي بتعليمات الرجوب أفراد خلية صوريف التابعة لكتائب القسام والتي نفذت علميات ضد الاحتلال على مدار أربع سنوات وقتلت 11 "إسرائيليا".
وعقب تسليم خلية صوريف بقرابة أربعة أشهر اعتقلت السلطة محيي الدين الشريف، خليفة الشهيد يحيى عياش في هندسة المتفجرات.
نيسان 2002 وفي ذروة انتفاضة الأقصى وعملية السور الواقي في الضفة الغربية سلمت أجهزة السلطة عشرات المقاومين دفعة واحدة للاحتلال، فقد جرى تسليم 30 مقاوماً من معتقلي سجن بيتونيا، وفي 2007 اعتقل أمين القوقا أحد منفذي عملية أرائيل القسامية، وبعد عام كشفت عن مكان واعتقلت منفذي عملية ديمونا.
2009 كشفت أجهزة السلطة عن المطارد الشهيد عبد المجيد دودين بعد تعذيب وقتل الشهيد هيثم عمرو، إلى جانب كشفها خلية السمان واغتيالها في قلقيلية، أما في 2010 فاعتقلت أجهزة أمن السلطة المطارد من الاحتلال المحرر أيوب القواسمي.
بعدها كشفت عن مكان خلية الشهيدين نشأت الكرمي ومأمون النتشة، فضلًا عن اعتقال المقاومين إسلام حامد وعاطف الصالحي بتهمة "تعكير صفو العلاقات مع (إسرائيل)"، عقب تنفيذهما عملية إطلاق نار على مستوطنين عند مفرق (ريمونيم) شرقي مدينة رام الله المحتلة.
وساهمت السلطة في تقديم معلومات حول خلية المطاردين الشهيد عامر أبو عيشة ومروان القواسمي عقب خطفهما وقتلهما لثلاثة جنود صهاينة في مدينة الخليل عام 2014.
وفي 2016م اعتقلت مخابرات السلطة 6 شبان بتهمة التخطيط لعمليات فدائية مسلحة ضد الاحتلال في الضفة، وعلى وقع الضغوط الشعبية وإضراب المعتقلين الستة عن الطعام أفرجت عنهم لتقدم قوات الاحتلال على اعتقالهم فورًا، وراحت الأخيرة تطارد الشاب باسل الأعرج قبل أن تقتحم منزلًا تحصن به وسط رام الله وتغتاله.
أما الشهيد أحمد جرار فقد كشفت وثائق في العام 2018 تؤكد تورط الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة في مساعدة الاحتلال على اغتياله في بلدة اليامون في جنين، حيث أظهرت الوثائق المسربة عن أحد ضباط الأجهزة الأمنية، عدداً من البرقيات الأمنية والخرائط التي حددت مكان اختباء الشهيد جرار، وحجم النشاط الأمني المكثف الذي قامت به أجهزة السلطة في تعقب الشهيد.
آخر علميات التسليم ما جرى مع منفذ عملية زعترة الأسير منتصر شلبي فقد ساهمت أجهزة السلطة في الكشف عن مكانه واعتقاله بعد كشفهم مكان المركبة التي نفذ بها العملية.
في السنوات الأخيرة لم تكتفِ السلطة بهذا المستوى من التنسيق الأمني بل دأبت على تقديم المزيد من الحماية والخدمات الأمنية للاحتلال، وباتت تتفاخر بإعادة جنود الاحتلال والمستوطنين الذين يدخلون مدن الضفة "عن طريق الخطأ"، فقد أعادت الشهر الماضي فقط 16 جندياً دخلوا مدينة الخليل.