يوافق اليوم الخميس الذكرى السنوية الرابعة لاستشهاد العالم المهندس فادي البطش، الذي اغتيل فجر ٢١ نيسان ٢٠١٨م، أثناء خروجه لأداء صلاة الفجر في العاصمة الماليزية كوالالمبور.
ولأن الله رحيم بعباده ورؤوف بأحوالهم، أراد أن يبرّد على قلب زوجته إيناس بعد ٤ سنوات من الاغتيال، وبجهود وزارة الداخلية الحثيثة وتتبعها للمشتبهين، أعلنت الوزارة بغزة في ٩ /١/ ٢٠٢٢م، في تصريح رسمي للمتحدث باسمها، إياد البزم أنها ألقت القبض على أحد المتورطين في جريمة الاغتيال في ماليزيا ٢٠١٨م، وتشير اعترافاته أنه شارك بعملية الاغتيال بتكليف من (الموساد).
وعبرت زوجة الشهيد إيناس، في لقاء على إذاعة نماء، عن فرحتها الكبيرة بالكشف عن مرتكبي الجريمة، لكنها فرحة ممزوجة بغصة أكبر، كما تقول أرملة الشهيد، "تتجلى فيها معاني الألم والمرار واسترجاع لحظات الفقد والفراق وكأنها حدثت للتو".
وتعقب الزوجة الصابرة: "الله بسنته في الأرض لا يترك المؤمنين فيدافع عنهم ويأخذ لهم حقوقهم، وسنته أيضًا في المستضعفين أنه لا يُضيّع دموعهم وآلامهم، "وما كان ربك نسياً"..
وأنشدت أرملة الشهيد ترثي زوجها:
ماذا أقولُ في رثائِك يا شهيد؟
ماذا أقولُ وقد فَرِح بموتك الأعداء؟
نَبكي عليكَ رثاءنا ببلادِ
أنتَ الشهيد إليكَ نكتبُ فادي
فلقد غُدرت لأجلِ أرضك موطنًا
لمْ يرحموا حتى بُكا الأولادِ
بالفجرِ استشهدت نورًا ساطعًا
وأضأت بالأنوارِ كلَّ سوادِ
سنظلُ نذكر موطنًا قد عشته
أنتَ الشهيد إليكَ نكتبُ فادي
العالم المهندس والشهيد المغدور فادي البطش كرّس حياته للدين والعلم، فكان من نعومة أظفاره يتعلم أحكام الدين ويحفظ القرآن وما إن أتم اثني عشر عامًا حتى حفظ كتاب الله كاملاً.
واصل فادي جهده وعلمه إلى أن كبر وأصبح شابًا بعقلية فذة، فحصل على درجتي البكالوريوس والماجستير، من الجامعة الإسلامية بغزة في تخصص "الهندسة الكهربائية "، وواصل طموحه؛ ليحصل على الدكتوراة في نفس التخصص من ماليزيا.
وفي عام 2015 منحته الدكتوراة جامعة مالايا الماليزية ليعمل بعدها محاضرًا أكاديميًا في الهندسة الكهربائية لدى جامعة كوالالمبور.
إنجازات كبيرة ومتعددة ومتنوعة لا حصر لها، حققها الشهيد، فنشر 30 بحثاً محكماً في مجلات عالمية، وشارك في أبحاث علمية محكمة بمؤتمرات دولية عقدت في دول عدة منها بريطانيا، وفنلندا، وإسبانيا، والسعودية علاوة على المشاركة في العديد من المؤتمرات في ماليزيا.
وصبيحة استشهاده كان من المفترض أن يشارك في مؤتمر في تركيا إلا أنه نال الشهادة يومها.
وواصلت زوجة الشهيد المهندس المسير بعده في تحفيظ وتعليم القرآن بجانب وظيفتها التعليمية لدى وزارة التربية والتعليم.
تتحدث إيناس عن هول الصدمة وقتها والخبر الذي نزل عليها كالصاعقة بعدما توالت الاتصالات على هاتفها من صديقاتها الماليزيات ليتأكدن من صحة ما سمعن عن الاغتيال، لا تدري وقتها أنها استيقظت من نومها أم أنها تُكمل الحلم.
انطلقت إيناس إلى شرفة منزلها لترى تجمهرا كبيرا، فنزلت مسرعة دون وعي لتصدم بالخبر الذي بات يقينًا، فحبيبها ومهجة فؤادها قد استشهد فعليًا.
رأته مستلقياً يروي الأرض بدمه الطاهر، وقد أصيب بحوالي ١٤ رصاصة كان أغلبها على رأسه، ليدلل على أن هذا العدو الطاغي الظالم يستهدف تصفية العقول المبدعة.
تكمل فتقول "كما نزل بي هذا الابتلاء وقتها، نزل اللطف والرحمة والصبر في آن واحد فهي التي رددت "اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرًا منها".
"في اليوم التالي ذهبت إلى المستشفى"، تضيف الزوجة المكلومة، "فكانت في استقبالي ابتسامته المعهودة التي لم تفارقه حياً وها هي ترافقه شهيداً، فاكتفت بها بعد أن منعتها الإجراءات الماليزية الأمنية من الاقتراب منه".
لم تجزع الزوجة الصبورة المتلهفة، وعادت في اليوم الثالث لترى نفس الابتسامة والوجه الوضاء النّير، فاقتربت منه وتأملته جيدًا وأمسكت به تحاول أن تشبع من رائحته. تصف إيناس الموقف قائلة: "تحدثت معه ووعدته أن أحافظ على الأمانة وعلى أبنائه وذلك بالسير على نهجه".
وكما كان الخبر صادمًا لإيناس لم يكن أقل صدمة لجيرانه الماليزيين الذين أحبوه على مدار سبع سنوات فهو إمام مسجدهم الذي يعلمهم القرآن وأحكامه.
فأقاموا له جنازة كبيرة احتشد فيها الآلاف، مسلمين وغير مسلمين، فلسطينيين وماليزيين، ومن مختلف الجنسيات، ليعبروا عن حزنهم وألمهم بفقدانه، واستنكارهم لهذه الجريمة التي استهدفت إنساناً مسالماً مبدعاً صحاب علم ومهندس يألفه الكبير والصغير.
فادي لطالما حلم بالشهادة على أرض فلسطين، لكنه سقط شهيدًا مغدورًا أعزل في بلاد الغربة، وفي أرضٍ بعيدةٍ، تفصلها عن الوطن آلاف الأميال، وتعزلها عن قطاعنا الحبيب حدودٌ ودولٌ وسياداتٌ، وحصارٌ وقيودٌ وعقوباتٌ، فرحمة الله عليه في الخالدين.
اختتمت الشهادة مسيرة العالم الفذ فادي البطش، فعاهدت زوجته نفسها على إكمال مسيرته، وقررت بعزيمتها القوية وإرادتها الصلبة أن تكتب كتابًا يضم سيرة الشهيد العطرة بعنوان "خاتمة تلخص حياة"، ما أجمل أن تكون قارئاً لسير العلماء حيث تتجسد العزيمة والإصرار والشغف.