بعد انتهاء بث الحلقة الثلاثين من مسلسل "قبضة الأحرار" فقد وجب نقاش موضوع الدراما الفلسطينية في ضوء توسع مجالات الصراع مع العدو. فرغم خصوبة التاريخ الفلسطيني الحديث والقديم، ووفرة القصص والأحداث التي يمكن أن تكون مئات الحلقات الدرامية وعشرات المسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية؛ إلاّ أن ذلك لا يزال بعيداً عن سلم الأولويات الوطنية! ولا شك بأن الجميع يدرك -أو يعترف- بأن مسلسل واحد مثل "التغريبة الفلسطينية" يستطيع أن ينقل إلى الأجيال العربية حقيقة المأساة الفلسطينية، وتفاصيل الرواية الوطنية للنكبة التي صنعها الاستعمار البريطاني والمنظمات الصهيونية؛ بتأثير يتجاوز عشرات الكتب وآلاف الحملات الآنية على السوشيال ميديا.
ولعلي أُجزم -كمُهتم بالتراث التاريخي- بأن مسلسل "عمر" الذي يروي جزء مهم من سيرة الخليفة "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه، قد اختصر آلاف القصص والأحداث المخطوطة في ملايين الأوراق التي قد لا تصل إلى الأسرة المسلمة في عصر السوشيال ميديا. بل إنه استطاع أن يرسم مشاهد بصرية مضبوطة فنياً وتاريخياً تختزل عشرات الصفحات من الكتاب، مع إيصال التأثير المطلوب للأحداث المعقدة، وربط سياقات المواقف بالأشخاص زماناً ومكاناً بشكل لا تستطيعه الكتب التراثية والتاريخية، بل تعجز عنه روايات العصر المكتوبة.
لقد مثل مسلسل "قبضة الأحرار" رواية مهمة في توثيق النضال الفلسطيني وتعزيز صورة البطولة في وجه الاحتلال وقدراته الكبيرة. فهو يعتبر نموذجاً لـ "دراما المقاومة" التي تجسد مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال الإسرائيلي في بيئة قطاع غزة، بأبعادها العسكرية والأمنية والاجتماعية.
وقد تميز هذا المسلسل عن سابقيه بأنه يجسد الحياة اليومية للعمل المقاوم في قطاع غزة. حيث كان مسلسل "بوابة السماء” -الجزء الأول عام 2018 والجزء الثاني عام 2021- يصور معاناة أهل القدس وما يتعرضون له من الإرهاب الصهيوني. ومن قبله مسلسل "الفدائي" -الجزء الأول عام 2016 والجزء الثاني عام 2017- يجسد عدداً من عمليات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، مع التركيز على معاناة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال.
ولعل أبرز ما لفت انتباهي في مسلسل "قبضة الأحرار" استناده إلى روايات لأحداث حقيقية من أرشيف المقاومة الفلسطينية مثل "معركة حد السيف" التي بدأت في 11 نوفمبر 2018، واستطاعت من خلالها المقاومة الفلسطينية إحباط عملية لأفضل وحدات النخبة الإسرائيلية "سيرت متكال"، والتي كانت تقوم بعمليات تجسس ضخمة داخل قطاع غزة، ضمن سلسلة معقدة من حرب الأدمغة بين المخابرات “الشاباك” الإسرائيلي واستخبارات المقاومة. بالإضافة إلى أحداث متعددة من معركة "سيف القدس" في الفترة من 10 إلى 21 مايو 2021 والتي شهدت عمليات قصف نوعية للداخل المحتل، واغتيال الاحتلال لعدد من القيادات العسكرية للمقاومة في مجال التصنيع والتطوير خلال قصف أحد الانفاق في مدينة غزة. كما أن المسلسل عالج عمليات الاغتيال المعنوي التي يمارسها الشاباك الإسرائيلي ضد نشطاء المقاومة الفلسطينية، من خلال فبركة القصص والإشاعات التي تشوههم في جانب القيم الوطنية أو الأخلاق الشخصية. وأسجل هنا أن القصة الدرامية في ذلك لم تكن واضحة لا على صعيد الأحداث المرتبطة بشخصية البطل قائد النخبة "أمير" أو حتى صديقه "فكري" مسؤول السايبر في المقاومة، وهذا يدعو للتركيز عليها لاحقاً في الجزء الثاني من المسلسل.
لقد كان واضحاً أن المسلسل قد عزز العمليات الدرامية ومشاهد القتال العسكرية، مع التركيز على المشاهد الخارجية بما يتناسب مع واقعية القصص، التي حدثت داخل أنفاق وأحياء حقيقية، وليست استديوهات أو مدن انتاج إعلامي كما كان في المسلسات السابقة. لقد كان المسلسل عملاً درامياً جريئاً بعرضه لتفاصيل أمنية وعسكرية من الميدان، استطاعت أن تجذب المشاهد وتضعه في الزمان والمكان المناسبين للأحداث.
ولم يخل المسلسل من سقطات في الحبكة الدرامية؛ ناتجة عن ضعف الإمكانيات المادية والفنية، أو نتيجة للعوائق الشرعية التي تقلص الهوامش الدرامية المتاحة لدى المنتج والمخرج، فمثلاً فيما يتعلق بالعلاقة الحميمية التقليدية بين الإبن وأمه أو العلاقة العاطفية الطبيعية بين البطل "أمير" وخطيبته "سلمى". ولعل ذلك يحتاج إلى مقاربات شرعية أو معالجات فنية تستطيع تجاوز تلك العوائق، وتوسع الهوامش اللازمة لتجسيد المشاعر الإنسانية العاطفية في بعض المواقف الدرامية.
لا شك أن الدراما تجسد انتصار المقاومة في معركة الوعي، وتمنح القضية الفلسطينية أبعاداً أكثر تأثيراً، بل تنقلها إلى كل بيت وأسرة، وتصل بالرواية الوطنية إلى كل جيل، مهما حاول العدو تشويهها أو تغييبها.
ولذا فإن الاستثمار في الدراما الفلسطينية يتجاوز الحاجة لتأليف الكتب وتكديس الموسوعات الورقية، أو تخصيص حلقات حوارية وساعات إذاعية لسرد الأحداث؛ فهو بحاجة لأن يصبح أولوية وطنية، واعتباره سلاحاً مقاوماً فاعلاً في مواجهة ماكنة التضليل الصهيونية. وهذا يتطلب تخصيص الموارد المالية والبشرية التي تستطيع تجسيد تضحيات الشعب الفلسطيني وتعكس بطولات مقاومته لأكثر من سبعة عقود.