كثيرة هي المدائح التي طالت الترجمة والمترجمين، والجهود الكبيرة التي جعلت من السهل الاطلاع والاستمتاع بآداب وعلوم كتّاب اللغات الأخرى، كما كانت هناك دائما شكاوى من ترجمات لم تستطع أن تقدم سوى إضاعة جهد وإمكانيات دور النشر والقرّاء.
وكان لنصيب الترجمة عن لغة وسيطة الكثير من النقاشات، وعادة ما يُنظر لكتاب مُترجم من غير لغته الأصلية بعين الحذر، وكذلك التساؤل، عن سبب ترجمة الكتاب من لغة وسيطة، مع وجود مترجمين عن اللغة الأصلية.
وفي الوقت الذي قدم مترجمون متعددون أعمالاً من لغات وسيطة وكانت على درجة عالية من الكفاءة، كان التساؤل يبدو ساذجا بجعل كل الترجمات عن لغات وسيطة ترجمات سيئة. وهل الأمر، في جودة تلك الترجمات، تتعلق باسم المترجم؟ أم تتعلق بلغة الكتاب الأصلي؟ ولماذا يضطر المترجمون إلى ترجمة أعمال من لغات وسيطة وليس من لغاتها الأصلية، وما مساوئ ذلك؟
هي أسئلة تفتح الأبواب أمام أسئلة أخرى، ولكن واقع الترجمة الوسيطة لم يكن على هذا المقدار من السوء؛ فهناك قرّاء يثقون باسم المترجم بغضّ النظر عن اللغة التي ترجم منها، أكانت من لغتها الأصلية أم من لغة وسيطة.
وهناك أمثلة كثيرة يمكن للمرء أن يستشهد بها؛ من ضمنها ترجمات الشاعر اللبناني الراحل بسام حجار، الذي ترجم الكثير من الأدب الياباني عن اللغة الفرنسية، أو ترجمات المترجم السوري سامي الدروبي، للأديبين الروسيين دوستويفسكي وتولستوي، عن الفرنسية، ومواطنه المترجم ممدوح عدوان، للشاعر اليوناني كازنتزاكيس، عن الإنجليزية.
في هذا التقرير نحاول الإجابة عن هذه التساؤلات باستضافة مترجمين شابين، وهما شاعران وقارئان من الدرجة الأولى أيضا.
أخطاء جسيمة
الشاعرة والمترجمة نور طلال نصرة (ولدت 1987) تجد أن الترجمة هي وسيط ثقافي بين الشعوب، ومن هذا المفهوم القريب ترى أن هذه "الوساطة" كانت حاضرة منذ آلاف السنين، وكانت مدخلاً إلى الثقافات الأخرى، وحلا مفيدا لمعضلة امتدت عصورا بين الحضارات.
تقول نور للجزيرة نت إنه بعد ذلك "جاءت الترجمة الوسيطة، أي ترجمة الترجمة، جسرا متينا بين ثقافات الشعوب. فقد لا يعرف الكثيرون أن العلاّمة ابن المقفّع مثلاً ترجم في العصر العباسي إلى اللغة العربية (حكايات كليلة ودمنة) المكتوبة باللغة الهندية في الأصل، عبر اللغة الفارسية".
وتستطرد مترجمة كتاب "الأدب الإيطالي" بأن هذه الترجمة "لا يمكن لأحد أن ينكر أهميتها وتأثيرها في الثقافة العربية. إذن، لا يحق للقارئ بخس جهد المترجم بحجة أنه ترجم هذا العمل عن لغة وسيطة، فأحيانا تكون الترجمة عن لغة وسيطة لمترجم متمكّن أفضل بكثير من ترجمة العمل ذاته عن لغته الأم".
وبسؤالها عن وجود كوارث في الترجمة عن اللغات الوسيطة، تستحضر نور القول إن "الأخطاء الجسيمة التي أقرؤها في الترجمات كانت معظمها عن ترجمة من لغة أصلية".
وتوضح صاحبة المجموعة الشعرية "جدران عازلة للصوت" أن ذلك يعود إلى "عدم قدرة المترجم على فهم النص الأصلي وعجزه عن تدارك الثغرات".
مهارة المترجم
إذن المشكلة في رأي نور ليست في الترجمة عن لغة أصلية أم وسيطة، بل في مهارة المترجم وأمانته. "ولا أقصد أن أضع كلمة الأمانة في خانة مضادة لكلمة الخيانة، كي لا أقع في منزلق التهمة الكلاسيكية عن خيانة الترجمة، لكنني أقصد أمانة المترجم في تقصيه لأبعاد النص؛ بحثه وقيامه بالمراجعات اللازمة؛ بذله الجهد المطلوب ومقارنة الترجمة الوسيطة باللغة الأصلية إن أمكن له".
وعن فضل الترجمة الوسيطة عليها وعلى القراء، تقول نور إنه لولا الترجمات الوسيطة لكنّا حُرمنا من أعمال رائعة في العصر الحديث "كترجمة سامي الدروبي لأعمال دوستويفسكي عن الفرنسية، والتي جاءت في 18 مجلدا، أو كترجمة محمد عيد إبراهيم لرواية "جوستين" للماركيز دي ساد، وهناك أمثلة كثيرة لا تقل أهمية في هذا الخصوص".
لكن لماذا هناك ترجمات عن لغة وسيطة في عصرنا الحالي؟ لماذا لا يوجد لدينا مترجمون من جميع اللغات؟ وأين وصلنا في سيرنا الثقافي بين الأمم؟
تقول نور إنه علينا أن نعترف "بتقصير الدور العربية عن مواكبة الحركة الثقافية، وخط الترجمة بهذا الخصوص، والتركيز على اللغات الأساسية (الإنجليزية والفرنسية) وإهمال لغات مهمة أخرى".
وتستدرك بأن "هذا ما أدّى إلى تراخي المترجمين عن اللغات الأخرى، وفتور الحماس ورغبة المنافسة لديهم. فمثلا لدينا في العالم العربي أسماء محددة لمترجمين يترجمون عن الإيطالية أو الروسية، في مقابل مئات المترجمين عن الإنجليزية مثلاً، والسبب تركيز دور النشر على بقعة جغرافيا محددة دون سواها".
شريك أساسي
من جهته، يجد الشاعر والمترجم المصري ميسرة صلاح الدين (ولد في عام 1979) أن الإنسان لم يتوقف، منذ اختراع اللغة، عن محاولة التواصل مع الآخر وفهمه والتفاعل معه.
لكن "كما جاءت اللغة كجسر للتواصل فقد سبب اختلاف اللغات حائلًا منيعًا بين أصحاب الثقافات المختلفة. ومن هنا جاءت أهمية الترجمة وحتميتها كمفتاح أساسي للفهم والوصال".
ويرى مترجم "رسائل ستيفان زفايج" أن الترجمة كانت شريكا أساسيا في نقل الخبرات والتجارب بين الشعوب في كل مجالات الحياة المهنية والعلمية والصناعية، وكذلك المجالات الأدبية والإبداعية على كل صورها.
ولعب المترجمون دورا "لا يقل أهمية على مر التاريخ عن المبشرين والفاتحين وحملة الرسالات، في ربط خيوط المجتمعات الإنسانية المختلفة بعضها ببعض، ونقل المعرفة ونشر الفن والجمال".
ويستطرد ميسرة للجزيرة نت بأنه مع تنوع الجماعات البشرية وزيادة وسائل التواصل الحديثة "أصبحت هناك حاجة ملحة وفضول متزايد، لقراءة أعمال أدبية والتواصل مع نصوص شعرية وسردية لأدباء وفنانين من شتى أنحاء العالم ومن شتى اللغات".
ضياع المعنى
يُحيل ميسرة زيادة أهمية الترجمة الوسيطة وجعلها خيارا لا غني عنه، "لندرة الكثير من اللغات، وصعوبة التوصل لمترجمين ذوي حس فني وأدبي ومهارة مناسبة للتصدي للترجمة من هذه اللغات وإليها".
وعن مخاطر الترجمة من لغة وسيطة، يجد صاحب مسرحية "ولاد آدم" أنه لا يمكن إنكار أن "عملية الترجمة برمتها محفوفة بالمخاطر، وكثير ما يضيع المعنى بين اللغة الأصلية واللغة التي ترجم منها، سواء كانت الترجمة عن لغة وسيطة أو حتى عن اللغة الأصلية بشكل مباشر".
ويستطرد ميسرة بأنه في كثير من الأحيان تكون هذه الإشكاليات بسبب "فروق فردية بين المترجمين، وعدم قدرة البعض منهم على فهم النصوص والغوص في أعماقها".
ويرى أن هذه الإشكاليات تزداد "عند وجود حلقة إضافية وسيطة بين لغة النص الأصلي واللغة التي سيترجم إليها، مما يجعل إمكانية ضياع المعنى وحدوث الأخطاء أكثر احتمالًا".
وعن تجربته مع الترجمة الوسيطة، يقول صاحب ديوان "أرقام سرية": "لا أنكر أنني كمترجم قد خضت تجربة الترجمة من لغة وسيطة، وأعترف بأنني كنت أشعر برعب شديد، اضطرني لبذل مجهود مضاعف للمراجعة والتدقيق والبحث في الثقافة الأصلية التي أترجم منها، وكنت أكثر تشددًا في إضافة الحواشي، والشروحات".
ويستطرد صلاح الدين بأنه كان يخصص وقتًا إضافيًا في القراءة حول الكاتب وأسلوبه وسيرته الذاتية، والقراءة عن العمل نفسه وعن أهميته بالنسبة للكاتب.
ويتابع "أحاول أن أحصل على حوارات صحفية، أو لقاءات متلفزة يتحدث فيها الكاتب عن فلسفته الخاصة، وفلسفة العمل. في محاولة محمومة لضمان التفاعل مع العمل والغوص في أعماقه".
ومع ذلك يجد صلاح الدين أن كل هذا الجهد "لا يضمن أن تكون نتيجة العمل متقنة يتفق عليها الجميع".
ويُعيد سبب ذلك إلى عملية الترجمة نفسها، "لأن الترجمة كعملية إبداعية ذات طبيعة متفردة، هي مقامرة في كل الأحوال غير مضمونة النتائج. يتسلح فيها المترجم بالعزيمة والصدق والعمل الدؤوب".
ويجد مترجم رواية "كل جزري الوحيدة" للكاتبة الفلبينية فيجي كامبيلان أنه ربما يكون العزاء الوحيد أن "النصوص الإبداعية والفنية المتميزة يختلف القراء حول معانيها ودلالتها ومضامينها، حتى لو قرؤوها بلغتها الأصلية، أو كانوا يحملون نفس جنسية المؤلف ويتحدثون بلغته الأم. الأدب والفن الحقيقي أمر جدلي يفتح بوابات الدهشة والتساؤل، ولا يخلو النقاش حوله من التعارض واختلاف الآراء".
المصدر: الجزيرة