يعتبر مسجد ابن عثمان الواقع في قلب حي الشجاعية، أكبر وأعرق أحياء مدينة غزة، ثاني أكبر المساجد الأثرية في قطاع غزة بعد المسجد العمري "الكبير" والواقع في حي الدرج وسط المدينة، وهو واحد من الشواهد التاريخية في مدينة غزة العريقة.
ويطلق سكان حي الشجاعية على هذا المسجد اسم "الجامع الكبير" نظرا لكبر مساحته ولتوسطه السوق الرئيسي للحي والذي كان له الأثر الكبير في حياتهم على مدار الحقب الزمنية منذ تأسيسه قبل أكثر من 600 عام.
وتعرض المسجد للاعتداءات والهدم عبر الحروب السابقة، وكان يعتبر مركزا للمواجهات مع قوات الاحتلال إبان انتفاضة الحجارة التي اندلعت في 8 كانون أول/ ديسمبر 1987م.
وتبلغ مساحة المسجد وهو من الطراز المملوكي 2000 متر مربع، منها 400 متر مربع هي مساحة ساحته الرئيسية، وله بوابتان غريبتان، بحسب نريمان خلة الباحثة في التاريخ والآثار.
وأوضحت خلة في حديثها لـ "عربي21" أن مسجد ابن عثمان هو ثاني أكبر الجوامع الأثرية بعد الجامع العمري الكبير في غزة، وفيه بيت واسع للصلاة، ترتفع فوقه مئذنة عالية وكبيرة للمسجد تميّزه عن باقي المساجد.
نريمان خلة.. باحثة في التاريخ والآثار
وأشارت إلى أن المسجد يقع في حي الشجاعية شرق مدينة غزة ويعود تاريخ الجزء الأقدم منه إلى سنة (802هـ/1400م)، وذلك وفق النقوش الموجودة فوق المدخل الجنوبي للجامع.
وأكدت أن المسجد سُمي بهذا الاسم نسبة إلى (شهاب الدين بن عثمان)؛ أحد علماء الدين في مدينة غزة، والذي يعود أصله إلى مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، مشيرة إلى أن ابن عثمان قام بتشييد هذا المسجد في غزة على غرار مسجد مشابه له تم بناؤه في مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية -للدلالة على ترابط المدن الفلسطينية بعضها ببعض- والذي يعتبر أقدم مساجد مدينة الخليل بعد الحرم الإبراهيمي هناك.
ووصفت الباحثة في التاريخ والآثار، المسجد بأنه نموذج رائع للعمارة المملوكية بعناصرها المعمارية والزخرفية، ما إن تدخله من إحدى البوابتين التي تفتح على المسجد من الناحية الغربية حتى تقابلك ساحة سماوية واسعة تتسع لقرابة الـ500 مصل، تحيط بها أروقة من كافة النواحي ما عدا الناحية الشرقية التي يقع فيها بيت الصلاة الذي تعلوه قبة المسجد.
وبينت أنه تُحيط بالساحة أروقة وممرات واسعة مكسوّة بالأقواس المملوكية والجدران السميكة من كافة النواحي، ما عدا الناحية الشرقية التي بُني فيها بيت واسع للصلاة، ترتفع فوقه قبّة كبيرة للمسجد تميّزه عن باقي مباني الحيّ.
وقالت: "يتميز مسجد ابن عثمان بكبر مساحته وجمال تصميمه الذي حافظ على ذاته رغم تقادم السنين عليه منذ العهد المملوكي وما تلاه إلى يومنا هذا، وهو نموذج رائع للعمارة المملوكية بعناصرها المعمارية والزخرفية".
وأوضحت أنه في الرواق الغربي من الجامع يوجد قبر الأمير (يلخجا)؛ حاكم مدينة غزة زمن السلطان المملوكي (برقوق)، المتوفى سنة (849هـ/1446م)، وبجواره مقبرة أو كما تُعرف محليا باسم "فستقية" تضم رفات العشرات من المقاومين الذين جاؤوا للجهاد في فلسطين ضدّ الغزاة واستشهدوا إبان الحروب الصليبية، وهي تعطي المسجد مكانة دينية وتاريخية متميّزة.
وقالت خلة: "إن المسجد أنشئ مشابهاً لتخطيط بناء الجامع العمري (الكبير)، حيث يضم باحة واسعة في الوسط، تحيط بها أربعة أروقة، وفي واجهة الجامع مدخلان عليهما عقود مدببة، وبينهما تقع المئذنة على قاعدة مربعة، وهو أسلوب معماري مملوكي استخدم في بناء العديد من المآذن في فلسطين وسوريا ومصر".
وأضافت: "أن الرواق الشرقي للمسجد يضم رواق القبلة المنبر الرائع، وتعد واجهته القبلية مثالاً على الزخارف المملوكية المحفورة بالحجر، فهي مزينة بزخارف هندسية ونباتية جميلة، وفوقها نقش كتابي يسجل تاريخ بنائها الذي يعود إلى سنة (834هـ/1431م)".
وذكرت أنها بنيت على يد (علم الدين سنجر)؛ رئيس الإدارة المحلية لمدينة غزة في ذلك الوقت، أما منبر الجامع فهو مصنوع من الرخام ومزين بزخارف إسلامية، وعليه قبة صغيرة فوق مقعد الخطيب.
وكشفت أن المسجد تعرض للهدم والخراب في الحروب القديمة، وتمّ ترميمه، وتم كذلك ترميم المسجد قبل نحو 20 عاماً، وترميم بيت الصلاة قبل عشرة أعوام.
وأكدت أن وزارة السياحة والآثار أشرفت على أعمال التدعيم والترميم الأخيرة للجامع عام (1430هـ/2009م)، والذي قام به مركز عمارة التراث "إيوان" التابع للجامعة الإسلامية بغزة وذلك الحفاظ على الجامع باعتباره أحد أهم الجوامع الأثرية في مدينة غزة.
ووصف المهندس محمود البلعاوي، منسق المشاريع في مركز "إيوان" مسجد ابن عثمان بأنه من أقدم وأعرق المساجد في حي الشجاعية، مشيرا إلى أنه مسجد مملوكي من الطراز الفريد، وأنه من المباني المميزة الذي أخذت فيه المئذنة في موضع المدخل وليس في رواق القبلة بالإضافة إلى الأروقة الثلاثة التي فيها القباب، منوها إلى أنه مميز جدا في الطراز وطريقة البناء.
وأوضح البلعاوي في حديثه لـ "عربي 21" أنه لم يتم ترميم مسجد ابن عثمان بالكامل، إنما بقيت العديد من الأروقة والفراغات الداخلية والخارجية، معربا عن أمله في أن تكون هناك فرصة لمشروع متكامل يغطي ترميم هذا المبنى التاريخي العريق.
محمود البلعاوي، منسق المشاريع في مركز "إيوان"
وأكد أن الترميم الجزئي للمسجد تم عام 2015م، مشيرا إلى أن أعمال الترميم شملت: معالجة المشاكل الظاهرة على الواجهة الغربية والمئذنة، ومنها: الرطوبة العالية، ونمو النباتات بين مداميك الواجهة، وإزالة جميع التعديات التي تؤثر على القيم الجمالية والأثرية للمسجد: كالملصقات، والدهانات، والطبقات الإسمنتية، بالإضافة إلى تنظيف الحجر القديم بالتقنية الفنية التقليدية باستخدام الأدوات اليدوية، ومن ثم أعمال الكحلة بين حلول الحجر، لينتهي العمل بالحفاظ على الواجهة وإظهارها بما يتناسب مع القيم التاريخية والحضارية للمسجد.
وقال: "المبنى لم يتم ترميمه في الكامل تم ترميم عدة عناصر منه، حيث تم ترميم الواجهة الخارجية المطلة عل السوق في المرحلة وهي واجهة فريدة فيها جحر أبلق فيها حجر عقد مخموس مرتفع بالألوان الرخامية الزاهية فيها حجر تأسيسي، وتم ترميم وراق المدخل من الداخل مع ما يحتويه من مكان الوضوء، كما تم ترميم المئذنة".
وأضاف: "تم عمل بعض أعمال الصيانة والترميم الجزئي، ولكن لم يستكمل في الكامل هناك بعض الجهود المحلية من أجل ترميمه بشكل كامل".
وتطرق البلعاوي إلى المعيقات والعقبات التي واجهتهم خلال عملية الترميم ومن أهمها وجود المسجد وسط السوق، مشيرا إلى أن الدخول للمسجد صعبة جدا وبوابتيه تطلان مباشرة على باب السوق التي يتواجد فيها عشرات البائعين الذين يغلقون هاتين البوابتين، لا سيما خلال ترميم الواجهة التي كانت غالبا توضع عليها البضائع للعرض.
واعتبر أن كبر مساحة المسجد كان يعطي مؤشرا ماليا كبيرا جدا للمانحين فيعزفون عن تمويله، مشيرا إلى أنهم كانوا يتعاملون مع الترميم على مراحل.
وشدد على أن الثقافة السائدة لدى أهل الحي الذي يقع فيه المسجد بضرورة عدم إغلاق المسجد خلال عملية الترميم كانت أحدى أهم عوائق الترميم الذي كان يحتاج لإغلاق وتفريغه لإيجاد المساحة للعاملين في عملية الترميم وهي عملية شاقة جدا وبها معدات.
وأشاد بتعاون أهل الحي في إنجاز عملية الترميم رغم الصعوبات، مشيرا إلى المساهمات المجتمعية التي غطت بعض النواقص التي لم يغطها المشروع الذي رصد له.
وأشار إلى العديد من المساهمات المجمعية مثل أعمال التطوع والتنظيف، وأن إقبال المجتمع المحلي ومساهمته دائما كانت مساهمة مميزة.
واستعرض البلعاوي الخطوات التي يتم اتباعها في عملية ترميم أي مبنى أثري أو تاريخي.
وقال: "نحن نقوم بعدة خطوات في إطار جهود مركز إيوان لترميم المباني التاريخية والأثرية تبدأ بعملية الأرشفة والتوثيق لهذه المواقع، لأنه لا يمكن الحفاظ على أي شيء دون أن نعرفه، فالتوثيق أولى الخطوات حتى نعرف ما هو المستهدف للتعامل معه".
وأضاف: "بعد عملية التوثيق نقوم بتقييم وتصنيف هذه المواقع لقوائم حسب الأهمية والقيمة التاريخية والحالة الإنشائية والحالة الإنشائية وقيمتها التاريخية".
وتابع: "بعض المباني تأخذ أولوية حسب حالتها الإنشائية السيئة كونها معرضة للتلف، وبعضها تكون قيمتها التاريخية أعلى لكن نؤخرها قليلا لأن حالتها الإنشائية متينة ومتماسكة وتصمد لسنوات".
واعتبر البلعاوي أن عملية البحث عن فرص التمويل لهذه المواقع هي من أصعب الأمور التي تواجههم في عملهم، مشيرا إلى أنهم يقومون بعمل مقترح تفصيلي لترميم هذه المباني و"نقوم بتسويقها لدى جهات التمويل الدولية للحصول على التمويل اللازم لها".
وتطرق للمرحلة قبل الأخيرة من الترميم قبل التنفيذ وهي عمل عقد شراكة بين المالك والممول والمشغل لضمان إعادة الترميم بشكل جيد وأنها لن تؤول إلى إغلاقه بعد الانتهاء منه والاستفادة منه حسب العقد.
ومن جهته أكد الكاتب والصحفي لؤي الغول على أهمية مسجد ابن عثمان بالنسبة لمدينة غزة بشكل عام وسكان حي الشجاعية الذي يتوسطه بشكل خاص.
وأشار الغول في حديثه لـ "عربي21" إلى الدور التاريخي الذي لعبه هذا المسجد في حياة سكان مدينة غزة، مؤكدا أنه يحتضن رفات حوالي 40 مقاتلا مسلما ممن دافعوا عن تراب فلسطين خلال الحروب الصليبية.
وقال الغول: "إذا كان التاريخ القديم لدور مسجد ابن عثمان في الدفاع عن حياض المسلمين قد قرأنا عنه في كتب التاريخ، فإن التاريخ الحديث لدوره في انتفاضة الحجارة عام 1987م عايشناه وكنا شهودا عليه".
لؤي الغول.. كاتب وصحفي فلسطيني
وأضاف: "لعب مسجد ابن عثمان دورا مهما خلال انتفاضة الحجارة كونه يتوسط أهم سوق في حي الشجاعية، وكان مركزا لنشطاء الانتفاضة، حيث انطلقت منه أول مسيرة جماهيرية حاشدة ينظمها أهالي هذا الحي في هذه الانتفاضة ضد الاحتلال واشتبكت مع الجيش الإسرائيلي الذي كان يطلق الرصاص عليهم وقد أدى ذلك إلى استشهاد وإصابة عدد منهم بجراح".
وأوضح الغول أن جيش الاحتلال قام بإغلاق مدخل شارع المسجد بالبراميل الأسمنتية لعدم خروج المسيرات التي تنطلق من المسجد إلى الشارع العام وكان باستمرار يحاول اقتحامه.
ودعا إلى ضرورة تسليط الضوء على تاريخ هذا المسجد العريق وعلى الحقب التاريخية التي كان جزءا منها، لا سيما الحقبة الأخيرة التي لا يزال من عايشوها على قيد الحياة وتسجيل رواياتهم الشفهية ونشرها.