ونخرج من خزائن الحزن كل يوم رمزا جديدا، يحمل سلة الياسمين وينثرها فوق جراحنا الطرية، ويحيي فينا ألف أمل كنا نعتقد أنه قد مات، هكذا فعل عدي التميمي بالأمس وقبله عشرات منذ بداية العام، كل منهم يسلم الوصية للتالي وهو يوقع صك اليقين معه.
كل هذه الصور التي تتوالى منذ بداية العام، محاولات شباب ينتمون لليقين في قلوبهم، كلها صور تثبت أننا شعب يحب الحياة، فلا ترتجف يداه خوفا ولا قلبه يسكنه أي شك، وهكذا قرر عدي التميمي قبل أحد عشر يوما أن يحمل سلاحا بدائيا وأن ينزل من سيارته على أحد الحواجز، ويبدأ بإطلاق النار، بثبات التقطته الكاميرات، ويفر الجنود هلعا يمينا ويسارا، ثم يعود ليركب ويطير إلى المجهول.
قتلت مجندة ومجند آخر نفق لاحقا، فجن جنون الاحتلال، وفرض على مخيم شعفاط حصارا خانقا لعله يستسلم ويسلّم المشتبك، لكن المخيم المعتاد على الصبر تضامن مع ابنه بكل الأشكال، وأشبع المحتل سخرية من تخبطه.
ثم أتى عدي بعد أحد عشر يوما ليسخر من الاحتلال للمرة الأخيرة، ويعلن لنا أن هذه ليست مجرد بطولة، هذه معجزة بطولية لا خوف فيها ولا وجل، أظهرها عدي التميمي وحده، وهو يشتبك بسلاحه البسيط، وكاميرا الاحتلال تصور.
ويبدو أن محاولات شباب شعفاط تضليل الاحتلال خلال الأحد عشر يوما كان لها أثرها، ووفق رواية العدو شاهد مستوطن عدي على أحد المفارق بالقرب من مستوطنة معالية أدوميم، وأبلغ الشرطة وكان ذلك في تمام السابعة من مساء الأربعاء.
الشرطة لم تتعط مع المكالمة ظنا منها أنها تضليلية من أبناء شعفاط، وهكذا كان أمام التميم ساعة كاملة استطاع فيها مهاجمة مخزن للذخيرة برصاصة وأصاب رجل الأمن إصابة بالغة قبل أن تأتي الشرطة وتبدأ المواجهة.
عدي عواد التميمي الذي لم يتجاوز الثانية والعشرين، يقوم ويسقط، ثم يقوم ويسقط، لأكثر من خمس مرات، ولا زالت يده على زناده، رصاصة مقابل عتاد وجيش، اشتباك من النقطة صفر للمرة الثانية.
بنفس الملابس السوداء، وعلى مدخل مستوطنة معاليه أدوميم، حيث يجب على العالم أن يتذكر أنها مستوطنة على أرض فلسطينية، سكنها أجداد التميمي فسلبت منهم قسرا، وهكذا كان على الفارس أن يتقدم ليصنع ملحمته، العادية والطبيعية جدا لشاب سلبت منه كل مقومات الحياة على أرضه.
ارتقى الفارس، وبقي توثيق عمليتيه يشهد على فعل الأحرار، والاحتلال لفرط غبائه يصور وينشر، وهو لا يعلم أن الثورة تماما كالعدوى تنتقل تلقائيا من شهيد لآخر، وحدهم أصحاب الأرض يعرفون هذا المعنى.
مساجد شعفاط أعلنت الخبر بصوت الحسرة، ونادى أئمة المساجد بصوت مرتجف على الشهيد البطل، وقد كان الاحتلال قد اعتقل والديه وشقيقه، وسائق السيارة الذي أقله، وثلاثة شبان آخرين، حسب مصادر الاحتلال التي لم تخف ذهولها مما فعله التميمي، حتى أن قائد شرطة الاحتلال قال في وصفه: "لقد خاض معركة حقيقية مع الجنود".
اندلعت مواجهات عنيفة بعد اقتحام قوات (إسرائيلية) مخيم شعفاط وحي رأس خميس شمال شرق القدس، فيما قال الجيش (الإسرائيلي) إن منفذ عملية "معاليه أدوميم"، هو الذي نفذ عملية شعفاط.
وذكرت وسائل إعلام فلسطينية أن قوات الاحتلال (الإسرائيلي) اقتحمت المخيم بأعداد كبيرة من الآليات، وأطلقت قنابل الغاز والصوت باتجاه المنازل، في محاولة لتهدئة الشارع (الإسرائيلي) الذي خرج بمسيرة استنكارية تنتقد عمل الشرطة الأمني وفشلها في الوصول إلى التميمي لعشرة أيام متتابعة حتى استطاع تنفيذ عملية أخرى.
رحل التميمي، الشاب الصغير الحالم، الذي يحب الحياة كما يحبها كل شاب في عمره، ولكن الحياة تبدأ بالحرية، والحرية في القدس، ثمنها موت يمكن أن يختار صاحبه طريقته بعناية فائقة، كما فعل عدي التميمي.