أصدرت مؤسسة القدس الدولية تقريرها السنوي حال القدس 2022: قراءة في مسار الأحداث والمآلات الذي يتناول أبرز التطورات في القدس عام 2022 على مستوى مشروع التهويد ومقاومته والمواقف حيال ذلك، مستشرفًا المآلات والتطورات لعام 2023 مع جملة من التوصيات للجهات المعنيّة.
ويتكوّن التقرير من ثلاثة فصول تتناول تطور مشروع التهويد في القدس، وتطورات المقاومة في القدس والمواجهة مع الاحتلال، والمواقف العربية والإسلامية والإسرائيلية والدوليّة، وأعدّها على التوالي الباحثون باسم القاسم، وعلي إبراهيم، وربيع الدنان؛ وهو من تحرير هشام يعقوب، رئيس قسم الأبحاث والمعلومات في مؤسسة القدس الدولية.
القدس في مهداف التهويد
استعرض الفصل الأول من التقرير تطورات مشروع التهويد في القدس على المستويين الديني والديمغرافي، مبرزًا أهمّ المسارات التي تبعها الاحتلال لفرض مشروعه التهويدي وتطويره.
وفي السياق المتعلق بالـأقصى، رصد التقرير أبرز السياقات التي عملت سلطات الاحتلال على فرضها في عام 2022، من اقتحامات المسجد، إلى تثبيت استراتيجية "التأسيس المعنوي للمبعد" خاصة في الأعياد والمناسبات اليهودية، وتحويل الصلوات العلنية من سلوك فردي إلى أداة رئيسة تستغلّها "منظمات المعبد" مسلّحة بقرارات صادرة عن محاكم الاحتلال، وفرض سياسة التقسيم الزماني للأقصى بعدم السماح للمصلين بالدخول إليه أو إخراجهم منه خلال الاقتحامات، والتقسيم المكاني بمنع المصلين من الوجود في المنطقة الشرقية للأقصى، إضافة إلى محاولة إفراغ المسجد بالقوة قبيل الاقتحامات، واعتقال أكبر عدد ممكن من داخل الأقصى، ثم إبعادهم عنه بعد الإفراج عنهم.
وفي الأرقام، بيّن التقرير تزايد نسبة اعتقالات المقدسيين بنحو 8% في عام 2022، ورصد هدم حوالي 140 منشأة في القدس المحتلة، من بينها 72 منشأة أجبر الاحتلال أصحابها على هدمها، في موازاة مصادقة سلطات الاحتلال على أكثر من 50 خطة استيطانية، وارتفاع أعداد الوحدات الاستيطانية التي أقرتها سلطات الاحتلال بنحو 24% في عام 2022.
ولفت التقرير إلى أنّ اعتداءات الاحتلال طالت المقدسات المسيحية ورجال الدين المسيحيين، فيما أنشأ مستوطنون متطرفون شركات وهمية، استخدموها في عملية السيطرة على عدد من العقارات العربية التابعة للكنيسة الأرثوذكسية في القدس بغرض تهويدها، مشيرًا إلى أنّ الاحتلال وسياساته أدّت على انخفاض أعداد المسيحيين في القدس من 20% عام 1948 إلى أقلّ من 2%.
تطورات نوعية في العمل المقاوم
لفت التقرير إلى أنّ عام 2022 شهد ترسخ المقاومة في الضفة الغربية والقدس المحتلتين على أنها الخيار الجامع للفلسطينيين، وهو خيار يتوسع في الحجم والأثر عامًا بعد آخر، إذ لم تعد مقتصرة على مواجهاتٍ متفرقة أو عمليات نوعية مقتصرة على الطعن والدهس، بل امتدّت من المواجهة الشعبية واستخدام الحجارة والسكاكين، إلى عمليات إطلاق النار، وزرع العبوات المتفجرة، وتشكيل مجموعات المقاومة في حالة عابرة للفصائل.
وبحسب التقرير، أصابت المقاومة الاحتلال بمزيد من الإرباك، حيث وصلت العمليات النوعية إلى "تل أبيب" والبلدات المحيطة بها في غير مرة، وتكرر استهداف الاحتلال في "عاصمته" المزعومة، على الرغم من الوجود الأمني الكبير في نواحيها، إضافة إلى تصاعد المقاومة الشعبية بمختلف أشكالها.
ولم يكن التصاعد في حجم العمليات وعددها فقط، بل امتد إلى آثارها، إذ لاحظ التقرير تقارب تواريخ تنفيذ عدد من العمليات، وخاصة تلك التي شهدها شهر آذار/مارس وبداية شهر نيسان/أبريل 2022، ما يشير إلى اختراق البنية الأمنية الإسرائيلية، وقدرة المنفذين على استهداف عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة في غير مرة، وفي أوقات تحشد فيها المستويات الأمنية مختلف إمكانياتها البشرية والرقابية.
كذلك، أشار التقرير إلى استخدام الأسلحة بشكلٍ أكثر كثافة في استهداف نقاط الاحتلال ومركباته وحواجزه الأمنية، حيث رصد نحو 848 عملية إطلاق نار في عام 2022، في مقابل 191 عملية في عام 2021.
وسلّط التقرير الضوء على العصيان المدني كأداة شعبية استخدمها المقدسيون لمواجهة تغول الاحتلال وأذرعه الأمنية، ولجأ إليها أهالي مخيم شعفاط على أثر فرض قوات الاحتلال حصارًا مشددًا في محيطه.
وبيّن التقرير أنّ حالة المقاومة المتصاعدة، واستمرار التغول الإسرائيلي في المناطق الفلسطينية، دفعا إلى تبلور مجموعات شبابية مقاومة، على غرار "كتيبة جنين" و"عرين الأسود"، والإعلان عن كتائب أخرى تنتمي إلى المدن الفلسطينية وخاصة في الضفة الغربية المحتلة.
إدانات لاعتداءات الاحتلال وتطبيع معه
في المواقف، لاحظ التقرير تفاوتًا بين حجم التغوّل الإسرائيلي من جهة، والمواقف الفلسطينية والعربية والإسلامية والدولية التي تراوحت بين الإدانة والاستنكار والانحياز إلى الاحتلال والتطبيع معه، من جهة أخرى.
فعلى المستوى الفلسطيني، أعلنت القيادة الفلسطينية الرسمية تمسكها برؤيتها للسلام، وإبقاء خياراتها لمواجهة التحديات التي تواجهها القضية الفلسطينية محصورة بالمفاوضات؛ لتستمرّ في الوقت ذاته في ستمر التنسيق الأمني مع الاحتلال على الرغم من استمرار جرائمه ضدّ الشعب الفلسطيني، وفي القدس والأقصى، وعلى الرغم من قرارات المجلس المركزي الفلسطيني الداعية إلى إيقاف التنسيق.
وبالمقابل، دعت معظم القوى والفصائل الفلسطينية إلى تصعيد أشكال المقاومة كافة لمواجهة مخططات الاحتلال في القدس والأقصى، داعية إلى وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، وطالبت القوى والفصائل الفلسطينية بضرورة وضع استراتيجية وطنية ترتقي إلى مستوى مجابهة المخاطر التي تُحدق بالقدس والأماكن المقدسة فيها.
على المستوى العربي والإسلامي، أعلنت جامعة الدول العربية ومنظّمة التّعاون الإسلامي رفضهما محاولات الاحتلال تغيير الوضع التاريخي والقانوني للقدس، ورفض التقسيم الزماني والمكاني للأقصى، وأن قوانينها وإجراءاتها الإدارية على القدس والأقصى غير قانونية، وباطلة ولاغية ولا تتسم بأي شرعية. ترافق ذلك مع تخلٍّ واضح من النظام العربي والإسلامي عن القضية الفلسطينية، ورصد التقرير تراجع بعض الأنظمة العربية في مواقفها إذ لم تعد تشترط إقامة دولة فلسطينية كما هو منصوص عليه في المبادرة العربية للسلام 2002 قبل تطبيع العلاقات مع الاحتلال.
وأشار التقرير إلى استمرار الأردن في اللجوء إلى الوسائل التقليدية السياسية نفسها للتصدي للاحتلال في الوقت الذي تصاعدت فيه وتيرة الاستهداف الإسرائيلي للدور الأردني في القدس والأقصى.
لفت التقرير إلى أنّ الدول الخليجية المطبعة حافظت على الوتيرة التصاعدية من العلاقات مع الاحتلال، فيما أظهرت استطلاعات الرأي أظهرت أن غالبية الشعب في الإمارات (71%)، والبحرين (76%)، والسعودية (75%)، والكويت (95%)، تعارض اتفاق التطبيع مع الاحتلال.
وعلى المستوى الدولي، كررت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي الدعوة إلى احترام الوضع الراهن للأماكن المقدسة في القدس، والامتناع عن الخطوات التي من شأنها تصعيد التوترات في الأماكن المقدسة وحولها، وفشل مجلس الأمن الدولي في إصدار بيان يدين فيه إجراءات الاحتلال في القدس، أو اعتداءات الاحتلال ومستوطنيه على الأقصى.
وفي ما خصّ الولايات المتحدة، رصد التقرير تركيز عمل إدارة بايدن على الدعوة إلى وقف الإجراءات الأحادية، ودعوة الجميع إلى الامتناع عن الأعمال التي من شأنها أن تزيد من حدة التصعيد والتوتر في القدس، مع التشديد على الحفاظ على الوضع القائم في الأماكن المقدسة، وبشكل خاص في الأقصى، وتأكيد حرص البيت الأبيض على إعادة فتح قنصلية في القدس.
المآلات والتوصيات
في المآلات، توقع التقرير تصعيد "منظمات المعبد" مطالبها الرامية إلى فرض المزيد من التحكم بالمسجد الأقصى وأبوابه، ومنحهم المزيد من الصلاحيات في ساحات المسجد، ومحاولة تحويل بعض هذه المطالب إلى حقائق على أرض الواقع، إلى استمرار العمل على تثبيت استراتيجية "التأسيس المعنوي للمبعد" خاصة في الأعياد اليهودية والمناسبات التهويدية.
كذلك، رأى التقرير أنّ الاحتلال سيستمرّ في تنفيذ المشاريع الاستيطانية والتهويدية في القدس، ومحيط المسجد الأقصى، وتصعيد عمليات تهجير المقدسيين وهدم منازلهم ومنشآتهم، مع فرض مزيد من الإجراءات والعقوبات بحق المقدسيين وحرمانهم من تطوير أحيائهم ومصالحهم، بهدف دفعهم إلى الهجرة خارج أسوار مدينة القدس؛ ومواصلة سياسة تجريدهم من هوياتهم وتقييد إقامتهم وإبعادهم عن المدينة، والعمل على سن المزيد من القوانين العنصرية التطهيرية بحقّهم.
ورجّح التقرير أن تستمر العمليات الفردية النوعية في عام 2023، لا سيما بالتزامن مع تصاعد استهداف الأقصى، واستمرار استهداف عمق الاحتلال الأمني والجغرافي، وتكرر العمليات النوعية التي تضرب "تل أبيب" والبلدات القريبة منها، مع استمرار الاحتلال في محاولات القضاء على العمل المقاوم واجتثاثه.
ورأى التقرير أنّ العجز سيلازم الموقف الفلسطيني الرسمي، مع استمرار تراجع موقع القضية الفلسطينية والقدس في سلم أولويات النظم الرسمية للدول العربية والإسلامية، مستبعدًا أيّ تغييرات جوهرية في الموقف الدولي، حيث رجّح أن تستمر مواقف الإدانة اللفظية لاعتداءات دولة الاحتلال بالتوازي مع استمرار العلاقات معها، من دون مواقف فعلية يمكن أن تنهي الاحتلال أو تضع حدًا لاعتداءاته المتمادية على الفلسطينيين.
وقدّم التقرير جملة من التوصيات إلى الجهات المعنية، ومن أبرزها توقف السلطة الفلسطينية عن الرهان على الإدارة الأمريكية أو أي من الأطر الدولية، ووقف التنسيق الأمني مع الاحتلال.
وتضمنت التوصيات الموجهة للأردن ضرورة التصدي بحزم لمحاولات الاحتلال تقويض الدور الأردني في القدس والمسجد الأقصى، وخوض معركة على مختلف الصعد لمنع الاحتلال من قضم صلاحيات الأوقاف الإسلامية والتدخل في شؤون المسجد الأقصى.
وبالنسبة إلى الحكومات العربية والإسلامية، أوصى التقرير بضرورة تقديم الدعم المباشر والسخي للمشاريع التي تعنى بعمارة المسجد الأقصى، ورفد المرابطين بالرعاية القانونية والمالية اللازمة، خاصة الفئات التي تتعرض للاعتقال والإبعاد بشكلٍ متكرر، إضافةً إلى إلغاء الأنظمة العربية والإسلامية قيودها على العمل الخيري، والمؤسسات العاملة للقدس وفلسطين.
كذلك، شدّد التقرير على أهمية ممارسة الشعوب العربية والإسلامية مزيدًا من الضغوط على الحكومات لوقف حملة التطبيع، وعدم الانخراط في تنفيذ مؤامرات تصفية القضية الفلسطينية، فما زالت الشعوب قادرة على لجم التسارع الرسمي صوب الاحتلال.