بضع عشرات من الصواريخ التي أُطلقت من لبنان وسوريا كانت كفيلة بإحداث زلزال سياسي وأمني فاجئ كل الأطراف؛ رسائل الدم والنار وصلت ثقيلة إلى حكومة الاحتلال وأدت إلى حالة من الإرباك بين مكوناته، وعملت على خلط الأوراق في المنطقة.
لم تكن المفاجئة في عملية إطلاق الصواريخ ذاتها؛ فالاحتلال حذّر من ذلك سابقاً؛ بل كانت المفاجئة في اتخاذ هذا القرار الجريء من قوى محور المقاومة وفي هذا التوقيت بالغ التعقيد داخلياً وإقليمياً ودولياً والذي رافق إطلاقها.
نتنياهو وحكومته اليمينية التي أساءت التقدير "وعبثت بالقنبلة النووية المسماة الحرم القدسي والمسجد الأقصى" كما وصفها قائد حماس بغزة يحيى السنوار في خطابه يوم الجمعة الماضي، يبدو أنها وقعت في الفخ، وأن قوة الردع الصهيوني تراجعت وتآكلت، من جهة فإن نتنياهو لم يستطع كبح جماح شركائه المتطرفين في الائتلاف وسلوكهم الذي أدى إلى تأجيج المنطقة بعد صور الاعتداءات التي خرجت من المسجد الأقصى وأثارت حفيظة المسلمين والعالم، ومن جهة أخرى فإن قيادة جيش الاحتلال لا ترغب في الانجرار إلى معركة بسبب هذه الهجمات غير المبررة على المصلين في المسجد الأقصى تلبية لرغبة بعض المراهقين السياسيين مثل الوزيرين بن غفير وسيموترتش، والتي ربما لن يقبل بها المجتمع الدولي في الوقت الحالي.
لعل أهم ما تحدث به السنوار في خطابه الناري في يوم القدس العالمي أن أهل القدس والضفة لن يكونوا وحدهم، ولن تتخلى المقاومة عنهم، بعد أن شجعهم وحثهم على استمرار الرباط في المسجد الأقصى، والنقطة الأهم هي جهوزية كل قوى محور المقاومة للدفاع عن القدس والأقصى؛ ليس من داخل فلسطين وحسب؛ بل من كل الجبهات، وقد سبقت "أفعال" المقاومة "أقوال" السنوار.
وكانت تقديرات أمنية وعسكرية صهيونية أشارت إلى أنّ حماس مسؤولة عن تصعيد التوتر على جبهات عدة؛ منها إطلاق القذائف الصاروخية على شمال الكيان والجليل المحتل انطلاقاً من جنوب لبنان والأراضي السورية، وزعمت أنه جاء بغطاء إيراني وضوء أخضر من حزب الله، وقد سبقها إطلاق صواريخ من قطاع غزة، وعمليات إطلاق نار بطولية في الضفة الغربية أدت لمقتل عدد من المستوطنين الصهاينة، وكذا العمل على تحريض وحشد المرابطين داخل المسجد الأقصى من أهل الضفة والداخل المحتل.
وسبق أن حذرت أوساط أمنية صهيونية من تراجع خطير في وضع الكيان الاستراتيجي في ظل تآكل قوة الردع، نتيجة الخلافات الداخلية في المجتمع الصهيوني بعد خطة حكومة نتنياهو إدخال تعديلات على الجهاز القضائي.
وبحسب ذات التقديرات الأمنية، فإن هذا التراجع في وضع الكيان الاستراتيجي وقوته السياسية والأمنية إقليمياً ودولياً، وكذا التباعد بين الكيان وأميركا، قد مهّد لهذا التصعيد الذي تدعمه "إيران" كما اتضح ذلك من خطاب الرئيس الإيراني الذي تزامن مع خطاب السنوار، وأعتقد أن إيران ومحور المقاومة يعلمون أن الكيان لن يتمكن من خوض حرب شاملة أو مهاجمة مشروع إيران النووي من دون دعم الولايات المتحدة، والتي لها أولويات أخرى في الوقت الحالي تتمثل في حرب أوكرانيا ووقف تقدم المارد الصيني.
كل ما سبق، تزامن مع اعتداء شرطة الاحتلال على المعتكفين في المسجد الأقصى الذي يُعد من أكثر الملفات اشتعالاً في المنطقة وهو كذلك أكثرها إجماعاً بين مكونات الأمة، وهو الأمر الذي استغلته المقاومة لفرض قواعد اشتباك جديدة، عبر الرد على هذه الاعتداءات من أربع جبهات مختلفة.
الرد الإسرائيلي الباهت على ما حدث، خاصة في جنوب لبنان، يدلل على أن نتنياهو يتجنب الدخول في حرب مفتوحة غير محمودة العواقب والنتائج، وهو الذي يعي جيداً مخاطر الصراع على القدس والأقصى وما قد يجره من حرب دينية يخشى تبعاتها في ظل ظروف استثنائية يمر بها العالم.
رسائل السنوار لم تتوقف هنا، بعد أن ترك الباب مفتوحاً من خلال جهوزية محور المقاومة لتكرار ما حدث وبصورة أكبر للرد على جرائم الاحتلال وسلوك شرطته في الأقصى والقدس، خاصة وأن فلسطين هي مفتاح الاستقرار "أو عدمه" في المنطقة، والمتابع للأحداث يرى أن الاحتلال يعيش حالة من الإرباك والتردد والتوتر؛ بخلاف قوى محور المقاومة التي أعتقد أنها كسبت هذه الجولة وسجلت نقطة أخرى لصالحها على طريق التحرر من الاحتلال.
بقي أن نشير إلى أن السنوار لم ينسى في خطابه الحديث والتأكيد على ضرورة العمل على وحدة مكونات الأمة العربية والإسلامية والمصالحة بين قواها ودولها لمواجهة الاحتلال، وأهمها إعادة سوريا إلى الجامعة العربية، لأن هذه الوحدة والمصالحة ترسل رسائل قوة وتحدي في وجه الاحتلال، وطمأنة لشعبنا وأمتنا الإسلامية.