قائمة الموقع

مقال: (فرعون فلسطين يرى الراشدين ظلاميين، ويَعُدُّ المفسدين راشدين)

2009-10-31T08:35:00+02:00

د. يونس الأسطل

 

( وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ(

(غافر 38)

     كثرت في الآونة الأخيرة خطابات محمود عباس، ولكنه لا زال في ضلاله القديم، إذْ لم يتورع عن اجترار قاموسه القديم في الشتائم المُصَوَّبة إلى عِرْضِ حماس، وفي هذا المقال مناقشة هادئة لإحدى تلك المسبات، فقد نَعَتَ غزة بالإمارة الظلامية، يقصد أن خطَّ الإسلام والمقاومة ظلام دامس، أو ضلال مبين، وهذا ينطوي على تزكية السلطة في رام الله بأنها أمارة نورانية، كأنها كوكب دُرِّيٌّ يوقد من شجرة مباركة زيتونة، لا شرقية ولا غربية.

     وهنا نتساءل عن النور والرشاد في الإقرار بشرعية الاحتلال لأربعة أخماس الأرض المباركة التي فيها المسجد الأقصى، والصخرة التي ينادي من فوقها إسرافيل بزلزلة الساعة، وهي التي فيها يصعقون، ثم ينفخ في الصور أخرى فإذا هم قيام ينظرون، فضلاً عن غيابة الجُبِّ التي أُلْقِيَ فيها سيدنا يوسف، ووادي النمل الذي أتى عليه سيدنا سليمان بجنوده من الجن والإنس والطير،والربوة التي آوى ربُّنا إليها عيسى بن مريم وأمه، حين أجاءها المخاض إلى جذع النخلة، وغير ذلك من الفضائل؟

     وما وجه الرشاد والنور في الإقرار بيهودية الدولة، والتعطف مع أسطورة المحرقة اليهودية؟، أو التعاون الأمني المطلق ضد المقاومة والمعارضة؟، أو التنازل عن القدس، ومعظم الثوابت الفلسطينية في وثيقة جنيف؟، أو حتى سحب تقرير جولدستون الذي يدين الاحتلال بارتكاب جرائم الحرب في قطاع غزة في العدوان الكبير في دُبُر العام الماضي، وناصية هذا العام؟، وقائمة المخازي تطول!!.

     إن سورة غافر قد قَصَّتْ علينا نبأ فرعون وهامان وقارون؛ إذْ جاءهم موسى بالبينات، فقالوا ساحر كذاب، وتواصوا أنِ اقتلوا  أبناء الذين آمنوا معه، واستحيوا نساءهم، بل إن فرعون قد قَرَّرَ أن يقتل سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام بنفسه، متذرعاً بخوفه أن يبدل دينهم، أو أن يظهر في الأرض الفساد.

     لذلك فقد انبرى رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه، وجعل يثنيهم عن الإقدام على قتل سيدنا موسى، ويخوفهم من بأس الله إنْ جاءهم، فما كان من فرعون إلا أن أخذته العزة بالإثم، وقاطع ذلك المحامي المجهول، وقال: " مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ  " غافر(29).

     فلما  رأى ذلك المؤمن صَلَفه،؛ حيث احتكر المعرفة، فرأيُهُ هو الصواب، وسبيله هو الرشاد، راح يصدح بالحق؛ أن ياقومِ اتبعونِ أَهْدِكم سبيل الرشاد، فالنور والهداية في الإيمان بالله، واتباع المرسلين، لا في اتباع الذي  علا في الأرض، وجعل أهلها شيعاً، يستضعف طائفة منهم، يُذَبِّحُ أبناءهم، ويستحيي نساءهم، ثم يقول للملأ من حوله:" مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي  "، فلما لم يجرؤ أَحَدٌ على مراجعته امتلأ غروراً، فقال كلمة كبرت أن تخرج من فِيه:" أنا رَبُّكُمُ الأعلى " فالأولى في القصص(38)، والثانية في النازعات(24).وقد استخفَّ بهذا قومه فأطاعوه؛ إنهم كانوا قوماً فاسقين، وقد جَرَّ على قومه بذلك أن يأخذهم الله جل جلاله بالسنين ونقص الثمرات، ثم أرسل عليهم الطوفان والجراد والقُمَّل والضفادع والدم آياتٍ مفصلات، كما أنه لمَّا لم يؤمن لسيدنا موسى، ولم يرسل معه بني إسرائيل، كما تعهد بذلك عند كل عقوبة من تلك الآيات أخذه الله وجنوده، فغشيهم من اليم ما غشيهم، وأضل فرعون قومه وما هدى، وكانت هذه العقوبة هي العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر، فإنه يَقْدُمُ قومه يوم القيامة، فأوردهم النار، وبئس الورد المورود، وأُتْبِعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرِّفْد المرفود.

     إذاً فنحن أمام منهجين، يدعي أصحاب كل واحدٍ منهما أنهم على سبيل الرشاد، فالرجل المؤمن ينادي قومه أن يتبعوه ليهديهم سبيل الرشاد، فما هذه الدنيا إلا متاع، وإن الآخرة هي دار القرار، مَنْ عمل سيئةً فلا يجزى إلا مثلها، ومَنْ عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة، يرزقون فيها بغير حساب، فقد دعاهم إلى الجنة وهم يدعونه إلى النار، حين دعوه ليكفر بالله، ويشرك به ما ليس له به علم، وهو يدعوهم إلى العزيز الغفار.

     وأما فرعون ذو الأوتاد، فقد طغى في البلاد، فأكثر فيها الفساد، ومع ذلك يزعم أنه ما يهديهم إلا سبيل الرشاد.

     وإذا أردنا أن نعلم مَنْ هو أهدى سبيلاً فإننا نحتكم إلى الجنِّ لا إلى الإنس، فقد يكون في الأناسيِّ مَنْ يؤمنون بالجِبْتِ والطاغوت، ويقولون للذين كفروا: إنهم أهدى من الذين آمنوا سبيلا، كاليهود.

     لقد استمع نفرٌ من الجن إلى القرآن، فقالوا: إنا سمعنا قرآناً عجباً، يهدي إلى الرُّشد، فآمنا به، ولن نشرك بربنا أحداً، ثم أخبروا أنهم انقسموا فريقين، فمنهم المسلمون، ومنهم القاسطون، فمن أسلم فأولئك تَحَرَّوْا رشداً، وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً، بل قالوا في معرض تعليل منعهم من مقاعد السمع في السماء؛ إذْ كانوا يَسَّمَّعون إلى الملأ الأعلى، ويَطَّلعون على طرفٍ من أنباء الغيب:" وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا  " الجن(10)وانظر(2)،(14).

     فالجنُّ إذاً يشهدون أن الرشد في القرآن، وأن الراشدين هم المسلمون، وإذا تتبعنا هذا المصطلح في القرآن نجد المقصود بالإسلام هنا هو الإيمان، فقد جاء في الحجرات:".. وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ  " الآية(7).

     ومما يشهد بصحة ذلك آية البقرة:".. فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ " (186).

     أما فرعون فقد شهد القرآن أنه لا يمتُّ إلى الرشاد بصلة،كما جاء في سورة هود".. فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ " (97).

     إن السبب في نكوص فرعون عن الإيمان والرشاد هو الاستكبار في الأرض، وقد تكفل ربنا جل وعلا أن يصرف عن آياته الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق،  وإنْ يَرَوْا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً، وإن يروا سبيل الغيِّ يخذوه سبيلاً كما في الأعراف(146)، مع أنه لا إكراه في الدين، قد تبين الرُّشْد من الغي، كما في البقرة(256).

     لذلك فقد أُزْلِفتْ الجنة للمتقين، وبُرّزتْ الجحيم للغاوين، كما أن أولئك الطغاة قد كُبْكِبوا فيها هم والغاوون، وجنود إبليس أجمعون، ولن ينفعهم أن يقولوا يومئذ:" رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ " القصص(63).

     فهل تبين بعد ذلك الرُّشْدُ من الغيِّ؟!، فعرفنا أين الظلمات وأين النور، والفرق بين الظلِّ والحَرور، بل بين الأعمى والبصير، أو الأحياء والأموات، وما أنت بمسمعٍ من في القبور، كما أنك لا تسمع الصُّمَّ الدعاء إذا وَلَّوا مدبرين.

     فَلْيصنعْ محمود عباس ما يشاء، ولْيعلنْ الانتخاباتِ من طرفٍ واحدٍ، ولْيذهبْ في التنسيق الأمني، واضطهاد المقاومة والشعب، إلى أقصى مدى، ولْيوسعْ قاموس الطعن واللعن، وعنده هامان وجنوده؛ أعني دحلان وشرذمة الخِلَّان يمدونه في الغي، ثم لا يُقْصِرون؛ فإن مصيره في الدنيا والآخرة هو مصير من قال:" ما أُريكم إلا ما أرى، وما أََهْدِيكم إلا سبيل الرشاد"، ولكأني به منبوذاً عند (لحدٍ) يبحث عن لقمة العيش في حانوتٍ صغير، أو في اللحد يقول: ربِّ ارجعونِ؛ لعلي أعمل صالحاً فيما تركت، كلا إنها كلمة هو قائلها, ومن ورائهم برزخٌ إلى يوم يبعثون.

     ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون.

 

 

 

 

اخبار ذات صلة