قائد الطوفان قائد الطوفان

(إسرائيل) إلى الهاوية

محمد مصطفى موسى

يمضي المشهد السياسي في “إسرائيل”، بوتيرة متسارعة لاهثة، إلى ذروة تصاعد درامي، غير مسبوق، إلى حد أنه صار أشبه ما يكون، بجلمود صخر حطّه السيل من علٍ.

إمعان حكومة الائتلاف القومي الديني، بزعامة “بنيامين نتنياهو”، فيما يمكن تسميته، بـ”الفتونة السياسية”، ضد خصوم الداخل والخارج، يفتح سيناريوهات المستقبل القريب، على احتمالات، جميعها يزيد الوضع الإسرائيلي المأزوم والمعقد، في الداخل والخارج، تأزمًا وتعقيدًا.

شخصية “نتنياهو” قد تكون ذات تأثير ما في صناعة الأزمة، فالرجل في واقع الأمر أقرب نفسيًا إلى نموذج “الفتوة” منه إلى السياسي، والتمعن في سيرته الذاتية، يكشف عن أننا إزاء قرصان يستولي على سفينة التهور والرعونة، لم تنضجه التجارب والخبرات منذ ارتقى سدة الوزارة أول مرة، فأشعل المعارك الكلامية، كما يفجر مجنون القنابل تحت قدميه، حتى إن أحدًا لا ينسى تهديده بقصف السد العالي، وهو ما رد عليه الرئيس مبارك، ردًا خشنًا لا يُنكر عليه، بغض النظر عن الخلاف أو الضغينة السياسية.

بعد ربع قرن من ذاك التاريخ، ها هو “نتنياهو” يقود ائتلافًا يمينيًا متطرفًا، يتبنى جهرًا وبمنتهى الصلف، خطط تهويد الأقصى، ومعه جوقة من المتعطشين لدماء العرب، ممن يتشدقون بخزعبلات سحق غزة، وطرد عرب الداخل، وضرب جنوب لبنان، وما إلى ذلك من دعاوى عنصرية إقصائية، ربما يخجل هتلر شخصيًا، من التفكير فيها، وإذا وسوس له شيطانه بها.. قد يصرفه بالمعوذتين!

أيما يكن من أمر، فإن ممارسات إسرائيل إزاء الفلسطينيين، لا تستجلب الدهشة، ذلك أنها ليست اجتزاءً شاذًا من السياق التاريخي العنصري لدولة الاحتلال، هذا بغض النظر عن مرجعية الحكومة وطبيعتها، سواء كانت عمالية أم ليكودية، أم تتشكل من ائتلاف ما، فالعرب على كل حال، محض أغيار، والعربي الجيد هو العربي الميت، كما يُنسب إلى “بن جوريون”، أول رئيس للحكومة بعد النكبة.

المتغير الجديد، أن هذه السياسات لم تعد تُمارس على العربي فحسب، بل غدت تُفرض على الخصوم السياسيين في الداخل أيضًا، الأمر الذي برز جليًا مع أزمة قانون “الحد من المعقولية”، الذي ترفضه المعارضة اليسارية تحديدًا، كونه يخصم من صلاحيات المحكمة العليا، الذي تُصمّم حكومة “نتنياهو” على تمريره، رغم أن مظاهرات رفضه لم تهدأ منذ نحو ثمانية أشهر، ورغم أن هذه المظاهرات ألقت ظلالًا قاتمة على الاقتصاد، إلى حد أن شركات ناشئة لملمت أوراقها ورحلت، فيما تحذر بيوت خبرة عالمية، المستثمرين الأجانب، من مخاطر الاستثمار في واقع سياسي ينفلت من عقاله، خاصة بعد وصول كرة النار إلى المؤسسة العسكرية، إثر إعلان نحو ألف ومائة طيار وفني، رفضهم التطوع للخدمة، لأنهم “لن يحلّقوا لدعم الديكتاتورية”، وكذلك توقيع العشرات، من كبار المسؤولين الأمنيين السابقين، خطابًا يطلبون فيه “نتنياهو” التراجع عن الغي، الذي هو فيه سادر.

رغم هذا كله، فإن “نتنياهو” يكتفي بأن يعطي المعارضين والناصحين، أُذنًا من طين، وأذنًا من عجين، فيما تمضي حكومته المتشددة قدمًا، فتحمل القانون إلى الكنيست، الذي يصادق عليه بأغلبية من أربعة أصوات فقط، أي بواقع أربعة وستين صوتًا، من أصل مائة وعشرين، وهو ما لم يمر على المعارضة بردًا وسلامًا، فإذا بها ترد الصفعة بإعلان نقابة الأطباء أنها ستخوض إضرابًا، لمدة أربع وعشرين ساعة، كما دخلت نقابات العمال “الهستدروت”، على خط الأزمة إذ أفصحت عن أنها تدرس إعلان إضراب عام في البلاد، في حراك احتجاجي بالغ الإثارة.

على هذا المنوال، تتعقد خيوط الأزمة الداخلية، فتشدد الائتلاف الحاكم يقابله تشدد مضاد، ويتشابك الموقف أكثر في ظل إصرار طرفي النزاع الداخلي على معادلة صفرية، بعد أن وصلا إلى نقطة اللاعودة، التي يصعب معها على كليهما التزحزح عن موضعه.

ومع هذا الالتباس، ارتفعت الأصوات المؤيدة لدولة الاحتلال للتحذير من مغبة الاحتقان، وتداعياته السلبية على “الدولة اليهودية”، إلى حد أن الكاتب الأمريكي اليهودي، والمقرّب إلى تل أبيب، “توماس فريدمان”، كتب في مقال لـ”نيويورك تايمز”: مثلما أنقذ نيكسون إسرائيل، يوم “كيبور” السادس من أكتوبر، لا أحد يستطيع إنقاذها اليوم، إلا الرئيس بايدن، الذي ينبغي أن يسعى لإقناع “نتنياهو” بالتراجع عن هذا القانون، لتجنب سيناريو التدمير من الداخل.

والمؤكد أن مقارنة اللحظة الراهنة بأخطر منعطف مرت به إسرائيل، أو قُل أخطر تهديد وجودي في تاريخها، رغم ما فيها من مبالغة نسبية، ليست من فراغ، فإلى جانب “فريدمان” الذي يرى الصورة من بعيد، أطلق “نداف أرغمان”، الرئيس السابق لجهاز الأمن العام الإسرائيلي “الشاباك”، صيحة تحذير من جانبه، من أن تؤدي القوانين التي تدفع بها الحكومة إلى حرب أهلية، ذلك أن أي تشريع لا يحظى بإجماع واسع سيقود إلى حالة من الفوضى، ومضى يقول لإذاعة جيش الاحتلال: “إن تمرير هذا القانون، يفسخ العقد الذي أبرمناه، لدى تأسيس دولتنا، الذي يقضي بأن تكون يهودية وديمقراطية”.

مثلان كافيان، لإماطة اللثام عن وجه المخاطر المحدقة، ولعل التدبر في شيوع مصطلحات، على شاكلة: “إنقاذ إسرائيل، والتدمير من الداخل، والحرب الأهلية”، يؤكد جدية المخاوف، غير أن حكومة الائتلاف المتطرفة، ذات العلاقة المتينة بالتيار “الكاهاني”، تريد الذهاب إلى الحد الأقصى، وتمطُ “بُوزها” لمطالب رافضي القانون، حتى بعد دهس أربعة متظاهرين من رافضي التعديلات، وهو الحادث الذي ارتأى زعيم المعارضة، “يائير لابيد”، أنه جريمة كراهية، ضد “مؤيدي الديمقراطية”، ويقف وراءها من دون ريب، “نتنياهو” شخصيًا.

في مجتمع لم يخلُ يومًا، من الاضطراب، ولم يعرف التجانس العرقي، ولا حتى الديني بين طوائفه، إذ تهيمن عليه صراعات يهود الغرب “الأشكناز” مع الشرقيين “السفارديم”، و”الأشكناز” مرة ثانية، مع يهود الحبشة “الفلاشا”، والدينيين “الحريديم” مع العلمانيين، بالتوازي مع محيط إقليمي كاره في مستواه الشعبي، فإن هذه العواصف كلها ستقتلع لا محالة، من الأرض، شيئًا ما.

إن الأزمة الداخلية بين الائتلاف الحاكم والمعارضة، بالتوازي مع الخطاب اليميني المتطرف الموجه للمحيط الإقليمي، قد يمثل شرارة تسفر عن حريق هائل، لا يمكن لإسرائيل ولا للمنطقة أن تتصدى لألسنته، وقد يصبح الأمر أكثر تعقيدًا، إذا اندلعت انتفاضة ثالثة في الضفة الغربية، وهذا احتمال قائم، أو إذا قرر ساسة الاحتلال تسخين ملف الجنوب اللبناني، عبر الدخول في مغامرة عسكرية ضد حزب الله، لتشتيت الانتباه عن احتقان الداخل، وهو منهج طالما اتبعته حكومات الاحتلال المتعاقبة، لكن الظرف هذه المرة مختلف كل الاختلاف، وتوسيع نطاق المعركة، لن يكون حلًا للأزمة، بل سيسهم في تفاقمها، كما حذّرت تقارير أمنية إسرائيلية، فقالت حرفيًا: “إن حماقة اليمين الديني، قد تدفع العربة إلى الهاوية”.

المصدر : الجزيرة مباشر

البث المباشر