يمثل مخيم جنين بمساحته الصغيرة نموذجًا يمكن القياس عليه لواقع الحال الفلسطيني ومستقبله.
ففيما كانت الضفة من شمالها إلى جنوبها خاضعةً لهيمنة الأجهزة الأمنية الفلسطينية ومتاحة لتوغلات جيش الاحتلال، كان مخيم جنين مستعصيًا، لا لصغر مكانه وضيق أزقته فحسب، بل لأنه حمل البذور الأولى لسوريالية التمرد الفلسطيني على السلطة التي لا تتناسب ومقاسه من الاستقلال والحرية.
في العام 2002 برز مخيم جنين كأحد بؤر المقاومة، واحتاج الأمر من قوات الاحتلال دك المنازل على أصحابها والقصف الجوي ليلًا نهارًا لإعلان السيطرة عليه.
وهو ما يؤكده الأكاديمي والمؤرخ الفلسطيني جمال عمرو، من أن مخيم جنين يستحق الرمزية الكبيرة واحتلال الصدارة، باعتباره يختزل القضية الفلسطينية برمتها، مشيرًا إلى أن جل سكان المخيم من الثوار، وأنهم جميعًا أسرة واحدة.
وهذا التعبير يشي عنه فيديو انتشر بُعيد طوفان الأقصى، أثناء اقتحام الاحتلال ظهرًا للمخيم، حين تصدى للاقتحام عدد من المقاومين.
في الفيديو يقع المقاوم على الأرض إثر استهدافه بالرصاص، فيسرع المسعف لالتقاط السلاح منه ويبدأ القتال، ليُصاب برصاص الاحتلال فيقع، فيلتقطه رجلٌ عجوز مارٌ ويواصل القتال، في هذا الفيديو هناك شخصٌ واحد يضع لثامًا هو المقاوم الأول، أما المقاومان الآخران فهما أبناء الوطن في لحظة الحقيقة.
وهو ما يؤكد كلام المؤرخ عمرو من أن المخيم قاتل ليس بحجم مخيم بل بحجم وطن، وبحجم القدس وبحجم كل فلسطين، فالجيل الجديد الذي ولد على أزيز الرصاص والطائرات والقتال والذبح والسلخ في مخيم جنين عام 2002، هو الذي يواجه اليوم جنود الاحتلال الإسرائيلي.
أما الباحث في الشؤون الإسرائيلية، سعيد بشارات، فيرى أن جنين أكثر مدن فلسطين خصوبة في ولادة المقاومين، وتشكل هاجسا لقوات الاحتلال لصعوبة اختراق أهلها بشبكات التجسس الإسرائيلية.
ويضيف بشارات، أن المدينة أصبحت “ماركة مسجلة” في ذهن العدو الإسرائيلي بتخريج المقاومين، لا تقل بأسا عن المقاومة بقطاع غزة.
وأشار إلى إقرار رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي “أفيف كوخافي” حديثا بمدى الخطورة التي باتت تشكلها جنين على كيان الاحتلال وأمنه.
ويلفت بشارات الانتباه إلى أن كلمة سر المقاومة في جنين تكمن في أنها تقف حائط صد منيع ضد محاولات الاحتلال اختراقها من الداخل.
جنين بوابة فلسطين كلها
لمخيم جنين ومقاومته جوانب أخرى، فهو حاضنة حقيقية لأي فعلٍ مقاوم، وإسنادٌ مباشر لكل مقاومٍ فلسطيني في الضفة الغربية، فإبان عملية نفق الحرية أقدم أحد الأسرى أيهم كممجي على محاولة الوصول إلى مخيم جنين، لكن قوات الاحتلال اعتقلته على بعد شارعين من المخيم.
يتكرر الأمر مع منفذ عملية حوارة عبد الفتاح خروشة الذي نفذ العملية ثم انضم لكتائب المقاومة في مخيم جنين، فاغتيل لاحقًا بصاروخ موجه أصاب البيت الذي يتواجد فيه.
لجنين أيضًا الأسبقية في حجم المقاومة وتنوعها وقوتها، فبعد طول ركود في الضفة الغربية وسعي متواصل لحصار أي تواجد مقاوم لحركة المقاومة الإسلامية حماس، نُشر في الخامس من سبتمبر 2022 فيديو لمجموعة من المقاومين الملثّمين التابعين لكتائب عز الدين القسام الجناح المسلح لحركة حماس، في جبال جنين، وهو ما أربك الاحتلال وأجهزة السلطة على حدٍ سواء.
وما بين تموز وآب من العام الحالي رُصدت عمليتي إطلاق صواريخ تجاه المستوطنات الصهيونية المتاخمة لجنين، وهو ما أكده جيش الاحتلال، وعززه بيان “كتيبة العياش” التابعة لكتائب عز الدين القسام التي تبنت العمل المقاوم.
ومما لا شك فيه أن الصور تظهر صواريخ بدائية محلية الصنع، لكن تجربة المقاومة في غزة أثبتت أن مقلاع الحجارة بإمكانه أن يتحول إلى مقذوفة بالعزم والإرادة، وهو ما يتوفر بلا أدنى شك لدى المقاومة في مخيم جنين، وما يجعل منها مشروعًا ناجحًا مغريًا للتطبيق في جميع مدن الضفة ومخيماتها
الباحث وسام أبو شمالة أرجع نجاح ظاهرة المقاومة في مخيم جنين إلى قدرة فصائل المقاومة على صَهر هوياتها الحزبية في الإطار الوطني، حتى يكاد يغيب اللون الحزبي في مخيم جنين.
كما يشترك المخيم أيضُا مع بقية المناطق والمدن الفلسطينية في عدائه الشديد لنهج السلطة الفلسطينية وتنسيقها الأمني مع الاحتلال، ولذلك يتكرر ظهور أفراد سابقين في الأجهزة الأمنية وناقمين عليها بين مقاوميه.
الاحتلال الإسرائيلي ومن خلال أجهزة مخابراته درس حالة مخيم جنين، في البداية أرجعها لمناطقية الانتماء الفلسطيني، وحالة التنافر ما بين كل منطقة من مدينة ومخيم وقرية، لكن تنوع انتماءات المقاومين بل ووجود بعضهم من خارج جنين بأكملها أسقط هذه الفرضية.
تحديدًا ظهر ذلك في الثالث والعشرين من تموز حين انصهرت الحواجز ما بين المدينة والقرية والمخيم ودخل ثلاثتها على خط النار في مواجهة المحتل، ليصبح جنين حالة تعبوية شاملة تتلاشى فيها أي حواجز تهدد تماسك الفلسطيني أمام عدوه.
في الـ 23 من تموز سيّر الاحتلال أكثر من ألف جنديٍ، مدعومين بالطيران المروحي والمسيرات، ومعززين بالمركبات المدرعة والجرافات العسكرية، في عمليةٍ واسعةٍ أطلق عليها اسم “البيت والحديقة”، وأسمتها المقاومة “بأس جنين”.
اعتمدت قوات الاحتلال المباغتة عبر ضرباتٍ جويةٍ، تلاها تقدمٌ واسعٌ نحو المخيم من عدة محاور، تسبقها الجرافات العسكرية، التي حفرت الشوارع المؤدية إلى المخيم، تحسبًا لأية عبواتٍ ناسفةٍ مزروعةٍ.
حاول الاحتلال استهداف الحاضنة الشعبية، عبر إعمال قوةٍ تدميريةٍ كبيرةٍ في البنية التحتية، وفي المنشآت والمنازل، واستُخدمت جرافة الـ D9 العسكرية، ذات القدرة التدميرية الكبيرة، التي يَحملُ أهالي مخيم جنين ذكرياتٍ صعبةً معها، منذ اجتياح 2002.
كما استهدف الاحتلال أهل المخيم، عبر تهجيرٍ مرعبٍ ليلة اليوم الأول من العدوان، والذي طاول 3000 مواطنٍ فلسطينييٍ، كان إخلاؤهم من منازلهم تهديدًا مباشرًا بمسح بيوتهم.
أما المقاومة فقد واجهت قوات الاحتلال بالكمائن المدروسة، التي استَخدمت فيها العبوات الناسفة المزروعة في الأرض، والاستهداف بمواقع محددةٍ، والانسحاب المدروس، ما قلل الخسائر إلى حدها الأدنى؛ اعتقالًا وقتلًا، ودفع الاحتلال للانسحاب.
هذه النتيجة رسخت مكانة جنين باعتبارها حاضنةً لمقاومةٍ شعبيةٍ شاملةٍ، ينخرط فيها المخيم والريف والمدينة، فرغم أن الاحتلال استهدف عزل المخيم وقضمه تدريجيًا، إلا أنه واجه مقاومةً عنيفةً في شوارع جنين لا المخيم.
حيث دارت أعنف الاشتباكات في مركز المدينة، وفي المربع التجاري، إلى جانب مدخل المدينة الشمالي. وانخرط فيها الفتية والشبان من المدينة وريفها، في محاولةٍ لإسناد المخيم.
اليوم وبعد طوفان الأقصى يكتب مخيم جنين حالة عريقة من الإبداع، حيث تتواصل المقاومة في جنين في أكثر من 33 موقعًا، وتقدم أكثر من خمسين شهيدًا، وفيما تُجرف الطرقات وتُهدم البيوت، ويعود الاحتلال مجددًا لاستخدام القصف كأداة للاغتيال والموت، تصبح جنين أكثر مناعة ضد الخوف والتراجع، وتغدو مقاومتها نموذجًا بدأ في مخيمها، وامتد إلى عرين الأسود في نابلس، فكتيبة طولكرم وقلقيلية، ومقاومة بيت لحم والخليل، حتى اشتعلت الضفة جميعًا بفتيلٍ واحد عنوانه ..مخيم جنين.