طغت عمليات القتل الجماعي للمدنيين العزل أو ما تُعرف في قاموس النزاعات والحروب بـ"المجازر" أو "المذابح" على المشهد اليومي والكلي لحرب الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة للشهر العاشر على التوالي، من دون أيّ أخلاق أو اعتبارات إنسانية، ودون اكتراث بقوانين الحروب والصراعات، وبالقوانين والمواثيق الدولية الحقوقية والإنسانية. آخر هذه المذابح اقترفها جيش الإجرام الإسرائيلي، أمس السبت، بقصفه مدرسة خديجة التي تؤوي آلاف النازحين غرب دير البلح، وسط القطاع، موقعاً عشرات الشهداء والجرحى، يضاف إليها العديد المجازر المتنقلة هنا وهناك والتي لا تختلف سوى في عدد الضحايا من الشهداء والجرحى.
كُتاب ومحللون سياسيون قالوا، في أحاديث منفصلة ، إن المجازر التي ترتكبها إسرائيل لها بُعدان، أو تسعى لتحقيق هدفين؛ تكتيكي انتقامي ضد المدنيين، واستراتيجي يتمثل في الضغط على المقاومة لتقديم تنازلات كبيرة على طاولة المفاوضات. وأشاروا إلى أن إسرائيل تستخدم القوة لتغيير الوعي الفلسطيني، وتعمل على حشر الفلسطينيين في أماكن محاصرة جغرافياً، لتنفيذ سياسية التهجير داخلياً على الأقل من أجل السيطرة على الأرض، ولفتوا في الوقت ذاته إلى عدم وجود موقف عربي ضاغط على إسرائيل، وهو ما يشجعها على مواصلة حرب الإبادة.
التهجير بشكل مباشر أو غير مباشر
الكاتب والمحلل السياسي د. عبد المجيد سويلم قال: إن ما يحدث من جرائم وتقتيل مباشر ومتعمد في غزة، وهو بعيد عن ادعاءات الاستهدافات العسكرية، يخدم في نهاية المطاف الفكرة الصهيونية اليمينية الجذرية الرامية إلى فرض حقائق التهجير، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
وأشار سويلم إلى أن هذه المجازر لا تبررها أي مبررات ميدانية، حيث إن القتل المتعمد والتهجير المتعمد والتصرف بسادية لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية الحديث، تفسر حقيقة الهدف من هذه الاستراتيجية، وهو جعل الغزيين يشعرون بأن أرضهم غير صالحة للحياة، وبالتالي دفعهم للبحث عن الهجرة، وهذه الاستراتيجية تسعى إلى فرض واقع جديد، حتى وإن لم يتحقق اليوم، فإنها تسعى لتحقيق هذا الهدف في المستقبل.
وأضاف: إن الأهداف العسكرية، مثل القضاء على حماس والمقاومة، هي قصص ملفقة تغلفها الحركة الصهيونية الدينية المتطرفة، مؤكداً أن الأهداف العسكرية قد انتهت منذ عدة شهور. وأشار إلى أن التقارير الإسرائيلية الجدية تؤكد أن الأهداف العسكرية انتهت، وأن ما يجري حالياً هو البحث عن وسائل ومبررات لعملية القتل المنظم.
هدف سياسي غير معلن
ويرى سويلم أن ما يحدث هو في الحقيقة هدف سياسي كبير وغير معلن، يتمثل في تحقيق ترانسفير غير مباشر إذا لم يتحقق الترانسفير المباشر، حيث إن الحرب على غزة تستهدف إجبار اهالي القطاع على الهجرة، ما يشير إلى الأبعاد الديموغرافية والمخططات الصهيونية لمستقبل الصراع، وإسرائيل تتجه نحو الإبادة كوسيلة للتحكم بالصراع.
وأوضح سويلم أن إسرائيل تدرك أن الكثير من الإسرائيليين يشعرون انهم بمكان لم يعد صالحاً لهم، وأن إسرائيل لا تستطيع توفير الرفاهية المجتمعية للإسرائيليين، وهي تنزف بشرياً.
وأكد سويلم أن المجازر لن تتوقف ما لم يتحول الموقف العربي من حالة الفشل والعجز إلى حالة إيجابية وفاعلة، قادرة على ممارسة ضغوط حقيقية واتخاذ مواقف جدية.
جبهات الإسناد وحدها لا تكفي
وقال سويلم: "صحيح أن الشعب الفلسطيني يمتلك فخراً وعزاً بفصائل المقاومة المساندة في عدد من جبهات المنطقة، لكن المسألة لن تحل بهذه الطريقة، والحل الوحيد هو أن تنقلب الحالة العربية من حالة فاشلة وعاجزة إلى حالة إيجابية وفاعلة ومؤثرة وتمارس ضغوطاً حقيقية، وتتخذ مواقف جدية".
وأضاف: إن الخلل ليس في التضامن الدولي أو أداء الفلسطينيين في المقاومة، بل في عدم جدية النظام العربي الرسمي في مواجهة إسرائيل، ما يجعل الشعب الفلسطيني ضحية لهذا التخاذل، ولو كانوا جادين في مواجهة الإبادة لأوقفوها منذ زمن طويل.
وأشار إلى أن هناك من يتضامن خاصة من الشعوب العربية، التي هي مستعدة للقتال بجانب الفلسطينيين، ولكن انقسام النظام العربي الرسمي يُغري إسرائيل لاستباحة دماء الفلسطينيين.
تدفيع المدنيين الثمن بعد كل "حدث صعب"
من جانبه، أوضح الكاتب والمحلل السياسي سري سمّور أن المجازر التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة تنطوي على هدفين، أحدهما تكتيكي انتقامي، والهدف الآخر استراتيجي، وهو إخضاع على المقاومة.
ووفق سمور، فإن الاحتلال يرتكب مزيداً من المجازر بعد كل عملية تكبد فيها المقاومة الاحتلال خسائر كبيرة ويصفها الاحتلال بأنها "حدث صعب"، حيث تأتي المجازر كجزء من رد انتقامي للاحتلال، يستهدف المدنيين في إطار الهدف التكتيكي.
وأوضح أن هناك هدفاً استراتيجياً وراء هذه المجازر، يتمثل في الضغط على المقاومة لتقديم تنازلات كبيرة على طاولة المفاوضات، تشمل الاستسلام وتسليم السلاح، وليس مجرد تنازلات عادية.
وأكد سمور أن الوضع في غزة صعب، وأن المجازر والمذابح ستستمر للأسف، ضمن سياق المحرقة والمذبحة المستمرة بحق أهالي القطاع.
مطلوب موقف عربي قوي
وقال سمور: إن إيقاف هذه المجازر يتطلب موقفاً عربياً قوياً، خاصة من مصر، عبر تغيير سياستها وضغطها على إسرائيل لوقف المجازر، نظراً لأن المواقف الدولية إما منحازة لإسرائيل أو منشغلة بذاتها.
وأشار إلى أن الحرب الحالية على قطاع غزة قد تكون الفرصة الأخيرة لإسرائيل لارتكاب المجازر، وهو ما يجعلها متعطشة للدماء، حيث لن تكون قادرة على القيام بذلك بالمستوى نفسه بعد انتهاء الحرب.
وشدد سمور على أن وقف المجازر يتطلب قوة عسكرية كبيرة، وهو ما لا يتوفر للمقاومة الفلسطينية أو العربية في الوقت الحالي، إضافة إلى ضرورة تغيير الموقف العربي، خاصة من مصر، لممارسة الضغط لوقف حرب الإبادة.
جعل المذبحة حدثاَ يومياً روتينياً
الكاتب والمحلل السياسي د. أحمد رفيق عوض قال إن رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يسعى إلى استمرار الحرب في سعي منه لإجبار المقاومة على الاستسلام، وهو يضغط بوحشية غير مسبوقة تتجاوز طاقة التحمل، محولاً المذبحة إلى حدث يومي روتيني يمكن تجاوزه، وذلك لتحقيق أهدافه.
ولفت إلى أن الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال تهدف إلى تدمير غزة وتهجير أهلها، وتحويل المجتمع إلى مجموعة جوعى وسحق البنية الاجتماعية، ما يؤدي إلى القضاء على إمكانية العودة للحياة في القطاع.
وأشار عوض إلى أن نتنياهو يستخدم القوة بكل أشكالها لتغيير وعي الشعب الفلسطيني، مكرراً التجربة الألمانية واليابانية التي تعتمد على القوة المطلقة لتحقيق تغيير الوعي.
تحميل المقاومة مسؤولية كل ما يحدث
ووفق عوض، فإن هدف نتنياهو هو تحميل المقاومة مسؤولية جميع عيوب المرحلة من الهزيمة والدمار ورفض المقاومة، ليظل تأثير ذلك على الأجيال المقبلة، مؤكداً أن ما يفعله نتنياهو يُفسر الكثير مما يجري من القتل والدمار والحرب الدائرة.
ويرى عوض أن الحل وإيقاف المجازر يكمن في ضغط المقاومة والشعب الفلسطيني بصموده، ليصبح أداة ضغط على إسرائيل ودفعها لتتكبد الأثمان.
واعتبر عوض أن تفكك الحكومة الإسرائيلية وضغط المجتمع الإسرائيلي عليها يُعدان أمرين ضروريَّين، إضافة إلى الحاجة لموقف دولي موحد، لكن من الصعب تحقيقه، لمعاقبة إسرائيل، يمكن أن تكون أسباباً في إيقاف المجازر.
ولفت عوض إلى أن العرب لا يستغلون قوتهم، ويبدو أن موقفهم تجاه حرب الإبادة غائب، ويبدو أن الإقليم بات لديه موقف لا يمكن تفسيره وغير مبرر تجاه القضية الفلسطينية.
استراتيجية تأديب الفلسطينيين
بدوره، قال أستاذ السياسة الدولية والسياسية المقارنة في جامعة النجاح د. حسن أيوب: إن المجازر التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة تأتي استمراراً لما يُسمى "استراتيجية تأديب الفلسطينيين وكل من يحاول المساس بأمن إسرائيل".
وأشار إلى أن ما يجري من مجازر ليس أمراً مستغرباً، حيث يرتبط بالأهداف غير المعلنة للحرب الإسرائيلية، أبرزها الحفاظ على فكرة التهجير التي لم تسقط، حتى لو كان ذلك عبر حشر أهالي غزة داخل القطاع والسيطرة على الأرض.
وأكد أيوب أن إسرائيل تحولت من فكرة التهجير إلى خارج قطاع غزة إلى داخل غزة، ما يُسهم في حشر الفلسطينيين في أماكن محاصرة جغرافياً، تماماً كما هو الهدف في الضفة الغربية للسيطرة على الأرض.
وأشار أيوب إلى أن الجيش الإسرائيلي أعلن ضمن المرحلة الثالثة من عملياته العسكرية أن الضغط على المقاومة هو سياسة إسرائيلية تهدف إلى تحقيق مرونة ورضوخ وتقديم التنازلات من قبل المقاومة، حيث كان آخرها استهداف مستشفى ميداني في دير البلح.
ولفت إلى أن إسرائيل تواصل إلقاء عشرات آلاف الأطنان من الأسلحة على غزة، في الوقت الذي تتصاعد فيه المطالبات بوقف توريد الأسلحة إليها دون تنفيذ ذلك لغاية الآن.
نقص في الضغط الفعلي على إسرائيل
ولفت أيوب إلى أن هناك معركة مهمة للضغط على إسرائيل تتطلب تفعيل قرارات محكمتي العدل الدولية والجنائية الدولية، ولكنّ هناك نقصاً في الضغط الفعلي على إسرائيل من قبل الدول النافذة والأطراف المعنية.
وأكد أن عدم وجود موقف عربي أو فلسطيني رسمي ضاغط على إسرائيل يعزز من استمرار الحرب.
وقال: إن العرب بإمكانهم فعل الكثير، بما في ذلك مطالبة الولايات المتحدة بالضغط على إسرائيل خاصة لوجود مصالح أمريكية كبيرة في المنطقة، مشيراً إلى أن بعض الدول العربية ترتبط بعلاقات مع إسرائيل دون أن يتغير عليها شيء، ما يعكس عدم وجود ضغط فعلي، ولفت إلى أن الضغط الوحيد يأتي من المقاومة في اليمن ولبنان والضفة الغربية.
ويرى أيوب أنه طالما أن إسرائيل لا تشعر بالضغط الفعلي، ولا تدفع أثماناً تترتب عليها نتيجة لهذه الحرب، فإنها ستستمر رغم الضغط الدولي المتصاعد، الذي لا يرتقي إلى وسيلة فعالة لإيقاف الحرب.
جريدة القدس