فقد عائلته بالحرب على غزة

علي النويري.. الطبيب الذي اختبر الله صبره في المنام

الرسالة نت

طبيب على فراش المرض، لا يستطيع التحرك، فقد الماضي كله بذكرياته، عائلة كاملة، وجسد متعب يتحرك على عكازين، تلك كانت سطور مختصرة في حياة الطبيب الفلسطيني الشاب علي النويري.

النويري البالغ من العمر ثلاثين عاما، جراح عظام يعمل في المستشفى الأوروبي ثم في مستشفى شهداء الأقصى، متزوج من الطبيبة إيناس النويري وهما والدان لحسن، طفل في الثالثة من عمره، يعيش في عائلة ممتدة في بيت من ثلاثة طوابق، عشرة أشخاص بين أخ وزوجة أخ، وأطفالهما، وزوجة وابن، ووالدين، جميعهم قرر الاحتلال أن يقتلهم كما قتل عشرات العائلات.

إبادة دفع ثمنها الطبيب النويري، ليبقى وحده أعزلا من العائلة، سلاحه الذي يتوكأ عليه طوال عمره، وتتركه القنابل مقعدا على كرسي متحرك، وحيدا ليكمل معركة الحياة.

كان على رأس عمله في مستشفى شهداء الأقصى، جراح يعالج في هذه الحرب ثلاثين حالة في اليوم، يعود إلى بيته فجرا يحمل قصص الموت والحياة وغرفة العمليات، في حرب لم ترحم طبيبا أو مريض.

في اللحظة التي قدرها خمس دقائق، كان عليه أن يعالج عشرات الحالات التي تأتي دفعة واحدة، يداري فيها دمعه ويخلع قلبه جانبا ليبادر لإنقاذ روح أو روحين قبل أن يسبقه الموت إليها.

لم تبدأ القصة بالموت الجماعي الذي تذوقه في منتصف الحرب، وإنما بتلك القصص الكثيرة التي جمعها الموت والألم والنجاة معا، في غرفة العمليات، نساء وأطفال، يعالجهم بالدمع قبل الدواء.

عاد إلى بيته في ذلك الصباح بعد ليلة مليئة بالعمل: "الطريق كانت طويلة، لأن حافلة العمل توصل الموظفين كل إلى بيته، والشوارع مدمرة ومغلقة، لذلك طالت الطريق، ولكنني وصلت الساعة العاشرة صباحا إلى المنزل"

يكمل: "حينما وصلت إلى المنزل استقبلني حسن، كان يتمنى أن أحضر له قميص برشلونه، ولكنني لم أحضره، قلت له بعد انتهاء الحرب يا بابا، فالمحلات كلها مغلقة". 

ويتحدث الطبيب الشاب عن ذلك المنام الذي يعتبره رسالة ما قبل الموت:  "نمت في الثانية عشر ظهرا، رأيت في نومي أن البيت قصف، وبأنني استشهدت ونطقت الشهادة، ولم أكملها وإذا بي في عالم ثاني، أكملتها هناك وشعرت بسكينة وطمأنينة، نظرت حولي لأبحث عن زوجتي وابني، وجدتهم، ثم ذهبت إليهم، وسرنا في طريق طويل جماعات مع أناس غيرنا، لم أعرفهم لأنني كنت أسير وراءهم ولم أرَ وجوههم، كان في آخر الطريق أضواء ملونة، وعرفت أنني في مكان غير المكان الذي أعرفه، سرنا، فإذا باثنين يوقفونني قالا لي" أنت لست معهم، ارجع حتى نرى صبرك واحتسابك، زوجتي وابني ذهبا، وتركوني، والتفتوا ملوحين لي من بعيد، صحوت وإذا بي أجد نفسي تحت الأنقاض".

لساعات تحت الركام، قبل أن يسمع صرخة أحدهم: هنا شخص لا زال حي ! فحملوه المنقذون وأخرجوه من تحت بقايا الحجارة والردم.
"كان ظهري يؤلمني، رفعوني وأنا أنظر إلى البيت العالي ذو الثلاثة طوابق وقد تحول إلى ركام، ففهمت أن الجميع استشهدوا، وكنت أنادي ماذا حدث لأمي وأبي وأخي وزوجتي وابني، فلا أحد يرد". 

ثم يكمل:"  نقلوني إلى مستشفى العودة، وحينما وصلت وجدت طبيبا زميلي وسألته ما الذي حدث بعائلتي، كان يهدئ من روعي، ثم نقلت لمستشفى الأقصى، وأنا أردد ما الذي حدث مع عائلتي، ولا أحد يجاوبني"

بعد الفحص عرف الطبيب أن هناك كسرا في العمود الفقري، ولم يستطع تحريك رجليه، لم تكن هناك معدات كافية لتثبيت الفقرات، فنقلوه إلى المستشفى الأوروبي، وخلال أربع ساعات أجروا له عملية. لقد كان يسأل من حوله خلال تلك اللحظات عن عائلته، وكان الجميع يردد " لا نعرف"  

يكمل قصته: "بعدما أستيقظت من العملية سألت ابن عمي وأخبرني أن كل عائلتي قد استشهدت أمي وأبي وأخي وزوجتي وابني، شعرت أن الدنيا كلها أصبحت سواد".

لم يودع عائلته، لم ير أجسادهم، كان ممددا في المستشفى، ويرى أن تلك قد تكون نعمة لأن الذاكرة خزنت في عقله صورهم الجميلة بأجساد مكتمله، لم ير أجسادا مقطعة أو وجوها محروقة، لقد رأى مناما جميلا قبل الموت بلحظات، وكان هذا كافيا ليبقي في عقله ذكرى جميلة لمن سبقوه إلى الجنة .

البث المباشر