خاص| شهادات أطباء عادوا من حرب الإبادة في غزة 

خاص- الرسالة نت

انهارت المنظومة الصحية بعد عشرة أشهر من الإبادة، يدخل الأطباء إلى غزة ويخرجون محملين بعشرات القصص المليئة بكل أشكال الموت وليس بأيديهم شيء سوى أن ينقلوها، فلم يكن باستطاعتهم إدخال الدواء اللازم، ولا الأجهزة والإمكانيات التي ستحاول بلا شك أن تنقد أرواحا على حافة الموت، في مستشفى متهالك، بعد أن حطمته عنجهية الاحتلال وإرهابه، وأصبح يعمل بدون أقل إمكانيات النجاة والعلاج.

بالدموع خرج الأطباء، يحاولون ما استطاعوا، يراقبون الجرحى الميؤوس من حالتهم، والممنوعين من العلاج في غزة، ومن السفر للعلاج خارج غزة، وعلى ذلك ليس أمامهم سوى خيار انتظار الموت أو إكمال الحياة بجسد مشوه أو إعاقة كان من الممكن أن تجد لها أمل بالعلاج لكن الاحتلال قص كل حبال الأمل.

الدكتور أحمد يوسف هو طبيب أمريكي من أصل عربي، زار غزة لثلاثة أسابيع، وهو يعد الموتى، يمد يديه ليعالج أحدهم وهو يعلم تماما أن الإمكانيات ضعيفة ومستحيلة في كثير من المرات، يقول:" كنت أعمل في العناية المركزة، كان الأطفال يأتون بعد كل قصف إلى المستشفى جرحى ومقطعين، كنا نسمع القصف، وبعد خمس وأربعين دقيقة يأتي الجرحى والشهداء محملين على عربات تجرها الحمير، أو محمولين على الأيدي.

يكمل الطبيب باكيا: وصلت صبية عمرها لا يتجاوز الثلاثة وعشرين عاما، كانت ممددة على السرير، وقد احترق جسدها بالكامل، ولا تستطيع الكلام لأن الحروق قد وصلت إلى الأعضاء الداخلية، وعلى الأرجح إلى مجرى التنفس، لم تكن مقاتلة، كانت امرأة ترقد على فراشها، وكانت حامل، وأنا أدخلتها إلى العناية المركزة، في هذه الحالة لا نملك لها أي حل، لأنه في الظروف العادية سترقد وتتألم حتى تفارق الحياة، وعلى ذلك يجب أن نعطيها مخدر أو مسكن حتى تمر أيام الألم بدون عذاب، ولكننا لم نكن نملك حتى المسكن.

يضيف:" فارقت الصبية الحياة بعد أيام من الوجع والعذاب، كنت أراها كل يوم تتعذب، وكنا نضع السونار على بطنها ونسمع نبض الجنين، لقد كان حيا، وأنا أقول:" كانت تستحق مسكنات قبل تغيير الضمادات، أودية لعلاج حالتها، لكن لم يكن أي من ذلك متوفر، لماذا سرق الاحتلال حقها في العلاج؟!" 

الطبيب الفرنسي باسكال اندريه عاش لأسابيع هموما أخرى في قطاع غزة، تحدث عن تلك الطائرات التي لا تنام، والتي وظيفتها أن تسرق النوم من العيون، فطائرات الاستطلاع ( الزنانة) تعمل على مدار الساعة فوق رؤوس الناس.

ويتذكر أندريه أنه شاهد الكثير من العائلات ينزحون لمرتين أو ثلاث خلال فترة إقامته، ويذهبون إلى مكان المفترض أنه آمن، ثم يقصفون ويموتون ويقول:" عشنا لحظات رعب بسبب تلك المسيرات التي لا يغادر صوتها رأسي والتي تعمل مهمتها على منع الناس من النوم، كان الناس ينزحون خمس مرات في منتصف الليل بدون أن يحملوا شيئا من متاعهم، لقد رأيت أشخاصا فقدوا كل أفراد أسرهم". 

ويكمل الطبيب: كانوا يقنصون رؤوس الأطفال والنساء، كانت العائلات تنام في المستشفيات، بينها قطعة قماش يعلقونها لضمان الخصوصية، عائلة إحدى الممرضات كانت تنام في الحمام بجانب المرحاض، ارتفاع الحرارة تسبب بانتشار الأمراض، قد يكون ذلك فرصة لانتشار الكوليرا، لقد قضوا على طفولة الأطفال". 

ماداس غيلبرت طبيب نرويجي مختص بالطوارئ، عمل لأعوام كثيرة مسبقا في مستشفى الشفاء، يقول: تجولت في كل أروقة المستشفى، حتى أنني نمت فيها أيضا وأعرف أن مزاعم الاحتلال التي دمر لأجلها المنظومة الصحية هي ادعاءات كاذبة، إنهم جيش مخابرات يعرف كل شيء، يعرف حتى أرقام المواطنين ويعرف الحقيقة مسبقا، لماذا لم يستطع تقديم أي دليل على وجود مقاتلين في مستشفى الشفاء؟! ببساطة لأنهم يكذبون، فهم يعرفون من البداية أنهم يكذبون، هم يريدون فقط أن يقتلوا الناس، ويجوعوهم، ويعطشونهم، إنها جريمة متكاملة ضد الإنسانية وضد المستشفيات، إنها حرب ضد الأرواح، وضد كل القيم والرئيس الأمريكي يدعم هذا القتل.

الطبيب اليهودي الأمريكي مارك بيرلموتر كانت شهادته مروعة بعد عودته من غزة:" لماذا يأتي طفل إلى غرفة العمليات وقد قنص مرتين في رأسه من قبل قناص يعمل في جيش مدرب ويعرف ماذا يفعل، لقد كان هدفهم الأول هو قتل الأطفال، كل الحالات التي كانت تأتي لأطفال استهدفوا بشكل مباشر".

ويكمل الطبيب المتخصص بطب الكوارث :" لقد عملت في أماكن الحروب والكوارث لثلاثين عاما، لم أمر بمثل هذه التجربة ولم أجد هذا العدد الكبير من الأطفال المصابين والمقتولين في أي منطقة، ولا حتى في مناطق ضحايا الزلازل، لقد رأيت أطفالا محروقين أكبر من العدد الذي رأيته طوال حياتي، رايت أطفالا ممزقين ومقطعي الأوصال بسبب انفجارات القذائف وتهدم بيوتهم فوق رؤوسهم.

ويكمل:" لقد استخرجت شظايا بطول الأصبع من جسد طفل لم يتجاوز الثماني سنوات، عالجت طفلين استهدفوا في الصدر بطريقة محترفة قاتلة، حتى أنني لم أستطع وضع سماعتي على صدرهما، لا يمكن أن تكون تلك الاصابات تمت عن طريق الخطأ، كل سنوات عمري في العمل مجتمعة لا تعادل ما رأيته من عذاب في غزة".

الطبيبة تانيا حاج حسن وهي طبييبة أمريكية من أصول عربية تحدثت أمام جمهور شاركها البكاء على ويلات ما شاهدت وما روت من قصص :" شاهدنا المذبحة تلو المذبحة، استقبلت طفلا وقد تحطم نصف رأسه، ولحسن الحظ الأعضاء الحيوية وامدادات التنفس للدماغ كانت سليمة وكان يتحدث إلينا، كانت أخته ممددة إلى جانبه، وهو لا يعرفها لشدة ما احترق جسدها، كان يسأل عليها كل لحظة، وكان والديه وكل أخوته قد قتلوا في تلك المجزرة، وفي اليوم التالي جاء طبيب جراحة تجميل وعمل له رقعة في الرقبة والرأس من الجلد".

الملفت في القصة أن الطفل كان يقترب من الطبيبة كل يوم ويهمس لها، يا ريتني مت، لقد ذهبت كل عائلتي إلى الجنة، وبقيت أنا وحيدا هنا.

الطبيب الكندي بن طومسون العائد من غزة حكى قصة طبيب فلسطيني، أوقفه الجنود واحتجزوه في اقتحامهم الأخير لمستشفى الشفاء في مارس الماضي يقول:" كان الطبيب مريض سكر، وأصر على البقاء لمعالجة المرضى، طلبوا منه خلع ملابسه كاملة، واحتجزوه واقفا ليومين، كان يتبول في مكانه، لم يسمحوا له بتناول أدويته، بما في ذلك الأنسولين، وسمحوا له بممارسة عمله وعلاج مرضاه بعد يومين، كانوا يسخرون منه لأن معظم المرضى أطفال، وبقي يومين عار بدون علاج.

ويكمل الطبيب: "طلبوا منه مغادرة غزة جنوبا، فأكمل سيرا على الأقدام، ولأنه مريض سكري تقرحت كعبه وقدماه من طول مدة الوقوف والسير، ولا أظنه سيمارس الطب مرة أخرى لأنه أصيب بقرحة كعب خطيرة جدا على مريض السكر".

ولعل شهادة الموت التي لم تكتب هي شهادة الطبيب بشير عصايرة والذي توفي بسكتة قلبية بعد عودته إلى الأردن  بيوم واحد قادما من غزة بعد أن ساهم في تخفيف المعاناة عن الجرحى ورأى أهوال القتل والإبادة التي مورست على الأطفال والنساء بشكل دقيق ومتعمد، فلم يستطع قلبه أن يحتمل وتوقف عن النبض حزنا، وصدمة من هول ما رآه في جحيم غزة.

البث المباشر