قُصف المنزل، ونجت الأم، وأخرجوا ابنها وزوجها ووالد زوجها شهداء، في ليلة من ليالي الاجتياحات في شمال قطاع غزة، جلست السيدة يافا نصير الموظفة في بلدية بيت حانون لست ساعات متواصلة، تساعد الدفاع المدني في التعرف على الجثث التي تخرج تباعا، تكابد وجعها، وتربط على جرحها عصبة حتى لا ينزف، وتقول لنفسها" داري وجعك فإن وجع الناس أكبر" وحينما اقتربت لتعد جثامين عائلتها، قالت لرجال الدفاع المدني:" ينقصهم أحمد!".
لم يكن أحمد العشريني ممددا إلى جانب شقيقه ووالده وجده، اقترب منها رجال الدفاع المدني، وكشفوا عن جثة ملفوفة بالأبيض وأخبروها بأن هذا ابنها، فنفت، مع أن الجثة لا ملامح لها، قالت:" ابني لم يكن على هذا القدر من الطول، وهذه الجثة لشاب طويل، أنا أعرف جسد ابني، وملامحه، وتفاصيله".
وهل يمكن أن يتعرف على الابن سوى أمه مهما غيرت آلية القتل الإسرائيلية ملامحه وشوهتها؟!.
عادت إلى منزل الإيواء مضطرة، ولكنها لم تكن مقتنعة، بعدما أخبرها رجال الإنقاذ بأنهم لم يجدوا تحت ركام البيت المكون من ثلاثة طوابق أي جثة أخرى، بحثوا ما استطاعوا، وبإمكانياتهم القليلة، بالمعاول طرقوا الحجارة، وفتحوا الفتحات الكثيرة التي يمكن أن تؤدي إلى الأسفل، ولم يجدوا أحدا.
كانت في منزلها، تفكر في تلك الأوجاع الكثيرة التي نزلت على مدينة بأكملها، مكلومة تشبه وجع هذه الأم التي فقدت عائلة، وظل أحمد الغائب بين قدر مجهول، وأمل، لا تستطيع أن تشعله، أو تطفئه، وتدعو الله بأن يرسل لها خبرا عن فقيدها الغائب.
في ذلك الصباح وبعد 138 يوما على تلك المجزرة، جاءتها صبية قريبة وقالت لها إنها رأت أحمد في المنام، وأخبرتها بأنه قال لها وهو يبتسم إنه تحت ممر البيت، وطلب منها أن تخبره بأن تأتي أمه لإخراجه.
وهذا ما فعله قلب السيدة يافا نصير، عادت بصحبة رجال الدفاع المدني، يعتمدون كلهم على منام تؤكد الأم بأنه دليلها الوحيد المتبقي على وجود ابنها في هذا المكان، حفروا في المكان المحدد، وبدأوا يخرجون الشاب عظمة تلو الأخرى، يناولونها لأمه التي تحملها بكل ثبات الدنيا، وتمددها على الغطاء الأبيض الذي جاءت به خصيصا لنقل عظام أحمد.
تضع ما تبقى من معصمه، جزء من ركبته، وتلك قطعة من عظام الكتف، ثم من قدمه، ثم جمجمته، ترتبها كما اعتدادت أن ترتب ملابسه، أو كما رتبت له كتبه في حقيبة المدرسة، أو كيفما وضعت ملابسه في خزانة الثياب، مع كل عظمة من عظامه ذكرى، تنخر في الذاكرة.
ثم تلف الأم الكفن الأبيض فوق العظام المتيبسه، وتحتضنها بين ذراعيها، تحمله وتسير به نحو مستشفى كمال عدوان، ويبهت السائرون إلى جانبها بصمت، حينما طلبت منهم أن يكبروا ويهتفوا" الشهيد حبيب الله، لا إله إلا الله، ابني أحمد حبيب الله" قبل أن يبدأوا بالترديد خلف الأم التي حملت ابنها لآخر مرة، بنفس الطريقة التي حملته بها يوم مولده، ملفوفا بقطعة قماش بيضاء.
دفنت السيدة يافا جثمان حبيبها، آخر قبر لأحبتها، وواست نفسها بفرحة يبحث عنها الغزي الآن، فرحة العثور على قبر! وكانت مع عظمة وجعها تقول:" أحاول أن أصبر لأن ألمي لا يساوي شيئا أمام ألم الناس".
وجع الأم مختلط بالراحة الآن، وهي تشير إلى القبر، قبر أحمد، الذي أرسل لها رسالة من السماء " أخبروا أمي بأن تأتي وتخرجني من تحت الأنقاض".